يشارك فيها أكثر من 800 مسؤول من بينهم رؤساء دول وحكومات ومسؤولين سياسيين ومؤسسات اقتصادية، وباحثين، وشركات تكنولوجية، وصحفيين. وتلتئم القمة تحت الرئاسة المشتركة للرئيس الفرنسي والوزير الأول الهندي نارندرا مودي. وهي الثالثة من نوعها بعد القمة الأولى التي انعقدت في بريطانيا العظمى في نوفمبر 2023 والثانية في سيول في ماي 2024 للبحث في المسائل الأمنية المتعلقة بخطورة أنظمة الذكاء الاصطناعي.
من بين المدعوين إضافة إلى الوزير الأول الهندي، نائب الرئيس الأمريكي فانس ونائب الوزير الأول الصيني ورئيس الوزراء الكندي جوستين ترودو ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان در لاين. وحضر القمة كذلك وجوه بارزة في ميدان صناعة نظم الذكاء الاصطناعي، من بينهم صام ألتمان رئيس "أوبن أي" وسوندار بيشاي رئيس "غوغل". وعدد كبير من المسؤولين الفرنسيين والأوروبيين وعدد من الباحثين والمستثمرين من 130 بلدا في العالم.
الأهداف المعلنة من قبل قصر الإليزيه، الذي سهر على تنظيم التظاهرة، تكمن في فتح المبادرة للجميع من أجل إرساء نظام مستقل مفتوح ومضمون، والعمل على حماية البيئة عند بداية المشاريع، وإرساء حوكمة عالمية ناجعة بدون إقصاء. وكانت الدول المشاركة قد أقامت هيئة إدارية تضم 30 بلدا ومنظمة دولية للإشراف على أعمال التجمع من أجل نظام ذكاء اصطناعي مفتوح. لكن هذه الأهداف تخفي الحرب التكنولوجية المفتوحة التي دخلت فيها الدول العظمى بعد أن أعلنت الصين على توزيع نظام "ديب سيك" المفتوح والمجاني المستخدم للذماء الاصطناعي لمنافسة نظام "تشات جي لي تي" الأمريكي، الشيء الذي شكل صدمة عميقة في صفوف الباحثين الأمريكيين وجعل شركة "أوبن أي" التي صنعت النظام تخسر قرابة 600 مليار من قيمتها في سوق "وول ستريت".
ما هي خصوصيات الذكاء الاصطناعي؟
حتى نفهم حقيقة وخطورة الذكاء الاصطناعي لا بد أن نسترجع ما وصل له التطور التكنولوجي. في البداية لنذكر أن العالم دخل في "العصر الرقمي" في بداية 1990 عند إطلاق الأنظمة الرقمية وشبكة الأنترنت على أوسع نطاق ممكن في العالم. وأصبح النظام الرقمي سائدا في استعمالات الكومبيوتر والهواتف الجوالة والهواتف الذكية وشاشات التلفزيون والأقمار الصناعية وأغلب الآلات المستعملة في الصناعة والحرب والطب والصيدلة والمبادلات والاتصالات والنقل والأمن وغيرها من ميادين الحياة عبر تطوير النظم الخوارزمية.
أما نظام الذكاء الاصطناعي، الذي يعتمد على النظم الرقمية، فهو تطوير جوهري لما كان عليه التطور التكنولوجي. فهو يعتمد على مستويين. المستوى الأول هو استعمال الشرائح الإلكترونية بعدد كبير وفي مجمعات للبيانات ضخمة تعتمد على ربط مسالك وشبكات من الأقراص الإلكترونية الذكية التي تجمع البيانات وتستخدمها من أجل إنتاج "معلومات" وبيانات حسابية بسرعة فائقة. وهي تعتمد بالأساس في برمجتها على الحسابيات. وأصبحت تدريجيا تستعمل عبر تطبيقات إلكترونية في صناعة الأسلحة والصواريخ الحربية والمدنية والأقمار الاصطناعية وتطوير كبار الكومبيوترات والآلات الحاسبة الضخمة.
وفي مرحلة ثانية تمكن الباحثون من صنع تطبيقات لمختلف ميادين الحياة نستخدمها يوميا بدون الوعي بأنها تدار بفضل الذكاء الاصطناعي مثل الهواتف الذكية والتلفزيونات والسيارات الحديثة ونظم البحث الإلكتروني والآلات الطبية والصناعية وغيرها من التطبيقات في مختلف ميادين الحياة. ومع إرسال نظام "تشات جي بي تي" من قبل شركة "أوبن أي" الأمريكية، أصبح ممكنا البحث عن أي معلومة بصورة مباشرة وفي أقل وقت ممكن، لا يتعدى بعض الثواني، مما جعل تداول المعلومات يشكل مشكلة تتعلق بالأمن وقدرة المستعمل على التأثير على الجمهور ومنافسة الجهات الرسمية التي تبث العلم والثقافة والمعلومات الحساسة. وتعددت التطبيقات إلى إمكانية استخدام صور الفيديو والأصوات، على نطاق واسع ومفتوح، لإنتاج فيديوهات خاطئة وبث معلومات زائفة أربكت في بعض الدول عمليات الانتخاب والعلاقات الرسمية.
صراع من أجل الهيمنة
قمة باريس تدخل في إطار هذا الوضع المستحدث والصراع والسباق اللذان يلتصقان به. فبعد الولايات المتحدة التي تحكمت في شبكة الإنترنت وفي 90% من نظم تشغيل الكومبيوتر عبر شركة "مايكروسوفت" وفي نظم "أبل" وكذلك جل شبكات التواصل الاجتماعي، دخلت الصين في السباق وتمكنت من إرساء نظم إلكترونية مماثلة تجسدت في شبكة "علي بابا" المنافسة لشركة "غوغل" وشبكة "تيك توك" واليوم نظام "ديب سيك" المدار بالذكاء الاصطناعي. كل هذه الأنظمة "الاجتماعية" هي ما ظهر من العمليات. لكن السباق الحقيقي يكمن في قذرة المهندسين على تحقيق السبق في ميدان صنع الأسلحة المتطورة من صواريخ وطائرات ودرون وشبكات الدفاع وغيرها من العتاد الحربي في إطار استراتيجيات الهيمنة الدولية.
في هذا الإطار انطلق التفكير، في مستوى الدول التي تريد نظاما عالميا متعدد الأقطاب، أولا في طرح المسألة الأمنية من أجل حماية المصالح الخاصة للدول. ثم جاء وقت فتح المجال للدخول في المنافسة. ففي حين أصبح الاستقطاب بين الصين والولايات المتحدة واضحا، دخلت فرنسا والهند وبريطانيا وكندا مع مجموعة أخرى من الدول وصل عددها إلى 130 حاليا في عملية صد الهيمنة من أجل إرساء نظم مستقلة ومفتوحة تمكنها من الإفلات من سيطرة الشركات الكبرى التي تحالفت اليوم مع الرئيس دونالد ترامب في استراتيجياتها الجديدة الرامية إلى الاستحواذ على أراضي الغير (غرون لاند وقنال باناما وغزة) والهيمنة على العالم بفضل التطور التكنولوجي. في هذا السباق تتمتع فرنسا بأسبقية مقارنة بالبلدان الأخرى.
الدور الفرنسي المحوري
تحتضن فرنسا 750 شركة ناشئة متخصصة في الذكاء الاصطناعي تضاف إلى 687 شركة ألمانية. وهو عدد متزايد في الدول الأوروبية التي مكنت المفوضية الأوروبية من سن "قانون الذكاء الاصطناعي" الرامي إلى تنظيم القطاع والتحكم في استخدامه بصورة سليمة وفي خدمة الصالح العام. وقبل انطلاق قمة باريس أعلن دونالد ترامب تخصيص 500 مليار دولار من الاستثمارات الخاصة لمشروع الذكاء الاصطناعي المستقبلي. فرنسا ، من جهتها، استثمرت إلى حد الآن 2،5 مليار يورو. لكن الرئيس ماكرون أعلن يوم 9 فيفري أن بلاده حصلت على مساهمات مالية قدرت بحوالي 109 مليار يورو قابلة للزيادة في الأسابيع والأشهر القادمة من أجل الاستثمار في "مجمعات بيانان ضخمة" تقام على التراب الفرنسي. ووقع الرئيس ماكرون في باريس يوم 6 فيفري مع الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة اتفاقا يقضي بفتح مجمع ضخم للذكاء الاصطناعي بتمويل إماراتي يتراوح بين 30 و50 مليار يورو ويكون أكبر مجمع في أوروبا. من ناحيته أعلن صندوق الاستثمار بروكفيلد الكندي على استثار 20 مليار دولار في تركيز مجمع ضخم للذكاء الاصطناعي في فرنسا. أما قصر الإليزيه فقد أشار إلى أن الرئيس ماكرون سوف يعلن عن تخصيص 35 مركزا جديدا "جاهزا للاستعمال" لفائدة المستثمرين. وأضاف نفس المصدر أن المشروع الجملي للاستثمارات سوف يصل إلى 250 مليار يورو في حدود 2030. وهي أرقام تركز فكرة الدخول في منافسة حقيقية تستفيد من العدد الكبير للعلماء في الحسابيات والمهندسين والتقنيين العاملين في ميدان الذكاء الاصطناعي.
رهانات المستقبل
يبقى أمام هذه الدول المنافسة الرهان الأكبر المتمثل في صنع الشرائح الإلكترونية التي هي أساس نظام الذكاء الاصطناعي التي تحتاج في صنعها للمعادن النادرة. تمتلك اليوم الصين كميات كبيرة من هذه المعادن المستخرجة من الأراضي الصينية والإفريقية التي اشترتها بيكين. وكذلك الولايات المتحدة التي تتمتع بمخزون في وسط البلاد وفي منطقة ألسكا الشمالية. يبقى أم تصل دول القمة الباريسية إلى نوع من الاتفاق لاستخدام المعادن النادرة التي في حوزتها بصورة تضمن لها نوعا من الاستقلال.
الرهان الثاني يكمن في نية قمة باريس الدخول في إنتاج نظم مفتوحة أي متوفرة للاستعمال من قبل البلدان الأخرى ومن بينها البلدان الصغيرة والنامية التي لا تقدر على المنافسة. وإن قررت الصين استعمل نظام "ديب سيك" بصورة مفتوحة فإنه ليس من المضمون أن تواصل العمل بنفس الطريقة بالنسبة للتطبيقات القادمة. أما الجانب الأمريكي فهو بتمتع بالسبق وله مساحة كبيرة من التقدم تمكنه، مع قدراته المالية الهائلة، من فرض قوته على مستعملي أنظمته الإلكترونية التي اكتسحت كل العالم.
للتذكير لم تتمكن أوروبا من فرض نظام "غاليليو" للملاحة بعد أن هيمنت الولايات المتحدة على السوق بفضل نظام "جي بي أس" المستعمل حاليا في كل السيارات والبواخر والطائرات والهواتف الجولة الذكية. هو ما يمكن أن يحصل بالنسبة للذكاء الاصطناعي. لكن التحكم العلمي والتكنولوجي في هذا المجال يسمح باستخدامه وطنيا ومحليا بدون اللجوء إلى نظم خارجية. وهي نافذة أمام الجميع تمكنهم من الإفلات من العملاقين في صورة تمكنوا من جمع الكفاءات والأموال الكافية لمقاومة المنافسة الشرسة من قبل الصين والولايات المتحدة خاصة أن الإدارة الأمريكية تتحرك بالتنسيق مع الشركات الخاصة. فقد أعلن مايك زوكربارغ رئيس "ميتا" على تخصيص 65 مليار دولار للاستثمار في نظام خاص به في حين قرر في ديسمبر الماضي إلون ماسك صاحب "أكس" و "سبايس أكس" استثمار 6 ميار دولار في تطوير نظم مماثلة. كل هذه التحركات واجهتها في باريس عديد التحركات من قبل شخصيات ومنظمات غير حكومية تنبه إلى خطورة أن تستعمل هذه التقنيات الحديثة للحد من الحقوق والحريات خاصة أن النظم التسلطية والمستبدة يمكنها أن تستخدمها لفرض هيمنتها على الشعوب.