وشدّد في حوار لـ" المغرب "على أهمية إعادة التعليم المؤنسن الذي يخدم القيم الإنسانية ويؤهل الجميع لمقاومة الخوف واليأس والعنف وغيرها من القضايا التي تواجه المنطقة والعالم . وقال اننا اليوم في مرحلة فارقة لتجديد العقد الاجتماعي من خلال التعليم ومن خلال القدرة على الإنقاذ . وقال ان مجتمعاتنا اليوم بحاجة الى الاختيار بين مواصلة تجاهل المعالجة الحقيقية لهذه المشاكل وبالتالي عملية الانكار التي تؤدي الى مزيد تعميق الأزمة أو أن نتخذ قرارا حضاريا يتداخل فيه كل شيء ويقوم أساسا على إعادة التفاوض والحوار حول العقد الاجتماعي الذي يجب أن يجمعنا. كما تطرق الى نتائج المنتدى الدولي للتعليم الذي انعقد مؤخرا في سيول وأهم مخرجاته .
لو تذكر لنا أهم ما جاء في المؤتمر الدولي حول التعليم في كوريا الجنوبية والذي شاركتكم به مؤخرا ؟
في الحقيقة ان منتدى مستقبل التعليم الذي نظمته اليونسكو بالتعاون مع وزارة التربية في كوريا الجنوبية هو محطة هامة في المسار الكوني للتفكير في واقع التعليم على مستوى العالم وفي مستقبله.
لقد أنشأت منظمة اليونسكو سنة 2019 اللجنة الدولية حول مستقبل التعليم وقد تشرفت في المشاركة في أعمالها . هذه اللجنة قامت بنقاشات دولية حول واقع التعليم وآفاقه في مختلف بلدان العالم . وقد أصدرت تقريرا هاما مرجعيا بالنسبة الى كل الأطراف التي تعمل على نهوض التعليم على المستوى الوطني والاقليمي والدولي. ودعت اليونسكو الى هذا المنتدى كتتويج لهذا المسار وهو مسار التفكير في مستقبل التعليم وكان منتدى هام جدا لأنه جمع مئات المشاركين والمشاركات من أكثر من 70 دولة ووزارات تربية وتعليم عالي وكذلك ممثلين وممثلات عن المجتمع المدني والقطاع الخاص ومراكز البحوث ومربين ومربيات من طلبة وباحثين وشباب من مختلف أنحاء العالم .
وما هي أهم نتائج ومخرجات هذا المنتدى؟
هناك ثلاثة نتائج هامة لهذا المنتدى ، أولا المنتدى ناقش قضايا هامة مثل قضية الحق في التعليم كحق كوني والتعلم مدى الحياة كحق من حقوق الانسان وقضايا مثل التغيرات المناخية والتعليم والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والعدالة الاجتماعية والتعليم . وهناك نقاشات كبرى بشأن محاولة توحيد الرؤى حول القضايا كنتيجة عملية لهذا المنتدى.
النتيجة الثانية ، أبرزت رغم تعدد الأصوات ورغم تعدد المشارب الفكرية واختلاف التجارب بين البلدان في مجال التعليم ، أبرزت مجموعة من الاتفاقيات الكونية الهامة التي أكدها هذا المنتدى والذي جاء بعضها في هذا التقرير الهام حول مستقبل التعليم.
فقد أكد المنتدى حول أهمية النظر الى التعليم كحق من حقوق الانسان وتوسيع مجالات هذا الحق.
ثانيا أكد على فكرة "أنسنة" التعليم والخروج من "سلعنة" التعليم . وكل الأطراف اتفقت على هذا الموضوع وعلى ان التعليم يجب ان يكون مؤنسنا وان يخرج من فكرة "السلعنة" التي أضرت بالتعليم.
المسألة الثالثة الهامة هو ان هذا التعليم يجب ان يكون عملية تعاونية أي أن تتعاون كل الأطراف داخل المجتمع وعلى المستوى الإقليمي والدولي من أجل النهوض بالتعليم . وهذه فكرة مهمة لأنها تخرج بنا من هيمنة طرف على قضايا التعليم.
المسألة الأخرى هي أن هذا التعليم يجب أن يعطي القدرة ليس فقط على أن يقدم خدمات بوصفه سلعة ،بل ان يكون له قدرة أن يأخذ بعين الاعتبار قضية تحرير الأفكار وقدراتهم والفكر النقدي وقدرة الفكر على مجابهة قضايا المجتمع . وكذلك قدرة المجتمع على ان يكون له دور في المشاركة في التنمية وحتى التحرر على المستوى العالمي .
نعرف اليوم ان هناك شعوب ما زالت ترزح تحت الهيمنة . وهنا تبرز اهمية التعلم والتعليم كأداة من أدوات مقاومة الهيمنة ومقاومة منطق العنف . كذلك التعليم يجب ان تكون له هذه القدرة على ان يخرجنا من منطق اليأس والخوف على مصيرنا . هذه المواضيع الأساسية التي حصل فيها نوع من الاتفاقات الكبرى.
النتيجة الثالثة لهذا المنتدى هي نتيجة عملية وهي اعلان اليونسكو انشاء مرصد دولي عالمي حول التعليم . وقد بدأنا في اللجنة الدولية حول مستقبل التعليم في اليونسكو بمناقشة هذه الفكرة وعُرضت في المنتدى وحازت على قبول كبير. وهذا المرصد سيكون نوعا ما الفضاء الكوني الذي يجمع التجارب والأفكار والكتابات من مختلف أنحاء العالم وبمختلف اللغات ويمتحن التجارب ويضعها للنقاش . ثم سيكون له هذا الجانب الجديد المتمثل في التجارب الصغيرة داخل البلدان لمربين ومربيات ومجتمع المدني من أجل تطوير التعليم . أي ستكون له هذه الأفكار الرئيسية حول إنتاج المعرفة بلغات العالم وحول التعليم . ثم سيعرض ليكون هناك نوع من الفضاء ليقع تبني التجارب وعرضها .
سيول كانت مرحلة فارقة -حسب رأيي- بشأن التفكير في مستقبل التعليم وأكدت مرة أخرى أن الأفكار الرئيسية موجودة متفق حولها واليوم المسؤولية هي تحويل هذه الأفكار الى تجارب عملية.
انطلاقا مما ذكرته كيف يمكن تطبيق ذلك على الدول العربية خاصة التي تعاني من تحولات جذرية وصراعات في خضم مسار انتقالي صعب جدا؟ .
المنتدى أكد على فكرة وهي ان كل هذه التحديات والتجارب تحتاج اليوم الى حوار مجتمعي والى تضامن وتعاون وعقد اجتماعي جديد يضمن مشاركة الجميع في بناء المجتمع الذي نريد عن طريق التعليم . ويمكن أن نساهم في الوصول الى هذا العقد وما أحوجنا في المنطقة العربية الى هذه الأفكار . نحن نعيش في مرحلة فارقة في المنطقة العربية ونعيش في نوع من السؤال الأساسي بشأن منطقة فيها إمكانيات كبرى فيها طاقات وآمال وأحلام ورغبة في التطور والتقدم . ولكن في نفس الوقت ورغم كل الإمكانيات فإننا نعيش على وقع الأزمة تلو الأزمة . نحن المنطقة التي تعيش أكثر أنواع الصراعات الدموية والنزاعات الداخلية والخارجية ونعيش هذا الاحتلال الذي يقوم بعملية إبادة كبرى في غزة . نعيش كذلك على تفتت بعض الدول ودخولها منذ مدة في مرحلة في مرحلة غامضة . كذلك نعيش على وقع أسئلة وتحديات كبرى أولها تحدي التنمية الانسانية المستدامة فهناك مشاكل كبرى على مستوى التطور السلبي لمؤشرات الفقر . هناك الغلاء والمعيشة الصعبة والبطالة . وكذلك هناك تدهور على مستوى منظومات الصحة والتعليم والنقل وغيرها من المنظومات . ثم هناك الأزمة السياسية التي تتمثل في عدم خروجنا من منطق الاستبداد والذي يتمثل في عدم الاعتراف بالديمقراطية وحرية الرأي والتعبير والتفكير وغيرها من المشاكل . اذا هناك مستويات متعددة من مظاهر هذه الأزمة التي تنعكس بالسلب على مختلف الأطراف الاجتماعية وبطبيعة الحال تلقي بثقلها على الأطراف الأكثر هشاشة في المجتمع مثل النساء والأشخاص ذوي الإعاقة والأطفال . وهي حقيقة تحديات كبرى تنضاف لها تحديات أخرى لسنا على أتم الاستعداد لها مثل التغيرات المناخية والأسئلة الكبرى التي تطرحها مثل أسئلة الموارد وقضية المياه وقضية الهجرة واللجوء وغيرها من القضايا . اذا أمام هذا الوضع نحن نحتاج حقيقة الى الاختيار بين مواصلة تجاهل المعالجة الحقيقية لهذه المشاكل وبالتالي عملية الانكار التي تؤدي الى مزيد تعميق الأزمة ونصبح في وضع لإنتاج وإعادة انتاج الأزمات . أو أن نتخذ قرارا حضاريا يتداخل فيه كل شيء يجب ان تكون له ابعاده واختياراته السياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية. ولكن يجب ان يقوم أساسا على إعادة التفاوض والحوار حول العقد الاجتماعي الذي يجب أن يجمعنا.
وهنا أقول أن التعليم هو أحد الأدوات الأساسية التي يمكن أن تساعدنا على إعادة طرح السؤال الحضاري حول الإصلاحات التي تخرجنا من الأزمة والتي ستتطلب وقتا ومجهودات كبرى . والتعليم والثقافة تساعد على ان تكون لنا هذه الرؤية الحضارية وتساعدنا على ان يشارك الجميع في بناء هذه الرؤية . نحن اليوم امام حقيقة تتطلب الخروج من فكرة الانكار وهي أنّ الاستبداد والتفرد بالرأي وغياب الحوكمة والاقصاء أثبتت عجزها عن إدارة شؤوننا وأثبتت عجزها عن بناء مناعتنا الذاتية ومناعتنا المجتمعية.
وأثبتت أننا أمام ضرورة الخروج من هذه الثقافة أي ثقافة الإنكار، فلا يوجد أي تعارض بين مناعة الدولة والحريات ولا يوجد أي تناقض بين التنمية الإنسانية المستدامة والحريات والديمقراطية. يجب أن تختار السلطات وكذلك حتى جزء من النخب الذي يرى دائما هذا التعارض. وحتى نخرج من هذا نحتاج إلى قرار سياسي شجاع . نحتاج إلى إصلاحات شاملة ونحتاج إلى ثقافة مجتمعية تؤمن بعدم وجود هذا التعارض وضرورة إزالته . وهنا يأتي دور التعليم ودور الثقافة المجتمعية . التعليم يجب أن يتحول إلى أداة تفوير للعقليات وليس فقط الى أداة للمعرفة . فالمعرفة بالحياة والمعرفة بطريقة مواجهة هذه المعضلات وهي معضلات حضارية . وهنا لنتذكر ان البلدان العربية عندما خرجت من الاستعمار قامت باختيارات حضارية مثل الاستثمار في التعليم العمومي والصحة العمومية ومحاربة الأمية وتعليم الكبار .
وكان لهذا الاختيار الأثر الايجابي ليس فقط على تطوير الكفاءة بل كذلك على تطوير العقليات. مع الأسف تدريجيا ولأسباب متعددة منها عدم وجود الديمقراطية ومنها التخلي عن التعليم العمومي والتخلي عن فكرة المصلحة العامة وتعويضها بالمصلحة الخاصة ، وغيرها من القضايا. وعندما تخلينا عن هذا المثال بدأ هذا العقد في الانفراط وأصبحنا غير قادرين على تكوين المواطن والمواطنة الذين يمكن أن يساهموا في مواصلة هذه الرؤية الحضارية .نحن الآن في مرحلة فارقة أمام سؤال أساسي كيف نجدد هذا العقد من خلال التعليم ومن خلال القدرة على الإنقاذ ومن خلال القدرة على أن نكون قاطرة للرؤى الحضارية .
اليوم كيف يمكن أن نعيد التأسيس لهذا العقد حتى نخرج من هذه الورطة الحضارية الكبرى التي جعلتنا في وضع وهن ويأس وخوف وبطبيعة الحال لم تعد تساعدنا حتى على مواجهة الأطماع الخارجية وأن تكون لنا هذه العلاقة المتكافئة مع بقية قوى العالم . هذا التطور الحضاري يجب أن يكون شاملا ، ويمكن أن يساعدنا التعليم على بناء رؤيته.
ماهو تصوركم اليوم لشكل التعليم الذي سيحرّر العقول ويحرّر المنطقة العربية في مواجهة كل أزماتها ؟
اليوم التعليم بشكله الحالي لا يحررنا من الخوف والفاقة واليأس ، هناك تعبيرات عديدة لأزمات متعددة أصبح التعليم جزءا منها بدل أن يكون جزءا من الحل . عندما نرى مثلا محتوى التعليم الذي هو بالأساس تلقيني يعيد انتاج معرفة مُسلعنة يؤدي إلى استشراء ظاهرة التنافس غير الصحي بين التلاميذ والطلبة ، كذلك يؤدي إلى استشراء ظواهر المال في التعليم وشراء التعليم بالمال بأشكال متعددة منها معضلة الدروس الخصوصية التي أصبحت عبئا على كاهل العائلات .
ثانيا هذا التعليم على مستوى المحتوى لا يفتح إدراك الإنسان على القضايا الأساسية على مهارات الحياة ، والنظر في قضايا البيئة والعدالة الاجتماعية والعدالة الإنسانية بصفة عامة . كان هناك بمثابة حاجز بين التعليم والعالم الفردي والعالم الكوني .
هذا التعليم لم يعد حقا من حقوق الإنسان على مدى الحياة ، فهناك مثلا تسرّب ومشاكل انقطاع وعدم وجود برامج مستدامة لتعليم الكبار . كذلك ضعف فضاءات التعليم التي لاتزال تقليدية . وهناك وضع سيء للمربيين والمربيات سواء على المستوى المادي أو على المستوى المعنوي . وعديد الأشياء التي تؤكد أنّ التعليم اليوم -رغم كل المجهودات التي تبذل من قبل أطراف إدارية ومن طرف المربين والمربيات ومن طرف العائلات- فإن الحصيلة تؤكد اليوم على أن التعليم لم يعد يهيئ الظروف لبناء الفكر النقدي العقلاني وثانيا لإعطاء المهارات وثالثا لتهيئة الإنسان لأن يواجه قضايا المجتمع .
اذا يجب أولا أن نختار حضاريا الخروج من هذا التعليم الذي لا يصنع إنسان المستقبل وان نذهب في اختيارات لا يمكن أن نتجاهلها بعد اليوم وان نعود إلى فكرة التعليم كحق من حقوق الإنسان وعلى مدى الحياة ، ثانيا نعيد تركيز فكرة التعليم كمنفعة عامة والتعليم كمسألة تعامل والتعليم المُأنسن الذي يخدم القيم الإنسانية.
فنحن لدينا حضارة ساهمت في بناء الحداثة والانسانية وحضارتنا اليوم يمكن ان تكون لها هذه الكلمة في المستقبل . فلا يمكن ان نواصل في تهميش التعليم والثقافة اذا اردنا ان تكون هذه الروح الحضارية جزءا من مستقبلنا . ويجب ان نبني رؤية جديدة لسيادتنا وان تكون لنا مكانة منفتحة على العالم وليس انفتاح الضعف بل ان تكون لنا كلمتنا في بناء انسانيتنا المشتركة ولنا حضارة ساهمت في بناء الانسانية حضارتنا اليوم يمكن ان تكون لها كلمة في بناء المستقبل .