يبتسم ويبكي، ينجح ويعايش الفشل، يحلم ويجهض احلامه، صراعات نفسية واجتماعية تصنع الذات البشرية التقطها المخرج وليد الدغسني وحوّلها الى نص مسرحي عنوانه "وحدي" وضع فيه عصارة الوجع والخوف والامل وحاول الوفاء لنصوصه وتجاربه السابقة، من "انفلات" 2012 الى "وصايا الديك" 2024.
"وحدي" مونودرام قدمه الممثل اسامة كشكار، مدته ساعة، انتاج شركة "كلاندستينو"، تجربة فنية نقدية اخرى تنطلق من وحدة الفرد لتطرح قضايا المجتمعات والشعوب.
اسامة كشكار ممثل واحد/متعدد
ينحت جسد الممثل عوالم الفضاء، يصنع بحركاته المتسارعة حينا والبطيئة احيانا المناخات الجغرافية والانسانية للعبة المسرحية والفنية، يحمل الممثل شخصياته المتعددة ويحاول نثرها في فضاء الحلم واللعب كطفل صغير ينزوي بنفسه بين لعبه ويصنع منها خيالاته وعوالم تشبهه، كذلك يفعل سامة كشكار في مونودرام "وحدي" ينتقل من شخصية الى اخرى محاولا التماهي مع مميزات كل شخصية جسديا ونفسيا وحتى في طريقة نطق الكلمات ودرجة التحكم في الصوت.
فالمونودرام فنّ صعب يبرز قوة الممثل وقدرته على التحكم في شخصيات اللعبة وعناصرها واقناع المتفرج، تركيبات جسدية ونفسية متباينة يحاول الممثل الانتقال بينها دون السقوط في خانة التقليد او التشابه وأسامة كشكار اثبت انه ممثل متمكن من الياته التمثيلية وقادر على الاقناع رغم صعوبة الشخصيات وحدتها احيانا.
يقول باولو كويلو "الوحدة اشد انواع الالم" فكيف اذا اجتمعت الوحدة والبطالة والهروب من ذاكرة مثقلة بالوجع وأحلام حبّ مسروقة ووجيعة اليتم والخوف من الموت الملازم للشخصية اثناء ترحالها، جميع هذه المفردات اجتمعت على شخص واحد، سائق شاحنة ثقيلة يسمع في داخله صوتا يحادثه فيتمادى معه ليفتح ابواب روحه المقفرة ويبوح بما يخبأه داخله منذ وحدته الاولى في الرحم الى وحدته الحالية في بيته المنعزل عن الناس، فالوحدة بابعادها النفسية والاجتماعية والثقافية ستكون موضوع المونودرام، ومن الوحدة الى التعددية ينطلق نص وليد الدغسني ليشاكس المنظومة السياسية والاجتماعية لبلده.
"وحدي" عنوان المونودرام، اداء الممثل المتلون اسامة كشكار، يقدم اساسا شخصية سائق شاحنة ثقيلة يحال الى بطالة قسرية، فينزوي في البيت وحينها تفتح الذكريات ليستحضر ماضيه ويقدم مشاهد وشخصيات اثرّت فيه وفي مسيرته وحياته الشخصية، هو وحيد وشعاره في العمل "لا ارى، لا اسمع، لا اتكلم" لذلك كوفئ بمغامرات جنونية لتحميل السلاح والمخدرات وتهريب البشر وكل انواع المخاطر، كوفئ لصمته بالوصول الى اقصى الصحراء والعودة دون خسران حياته.
شخصية تبدو بسيطة لكنها مسكونة بالوجع وطيلة ساعة كاملة واثناء محاولتها الخروج الى الشارع ستبوح هذه الشخصية بما يؤرقها وما رافقها من الم منذ الطفولة، فالوجع بين الشخصية كفرد والمجموعة والوطن متشابهة جدا، ومن خلال الم الشخصية سيحدث الممثل جمهوره عن احلام جيل ضاعت وشعارات الثورة التي نسي اغلبها ومعاناة ابناء البلد من خطر الارهاب والتهريب، فالفرد لا يعيش بمعزل عن مجموعته والم المثقف هو انعكاس لاوجاع الوطن ومشاكله كما يكتب الدغسني في كل نصوصه المسرحية.
قدم كشكار في العمل اكثر من شخصية من بينها شخصية الاب والسائق الصديق والارهابي ورجل الامن والمحامي والصوت الداخلي المتناص مع اناه، لكل شخصية ملامحها الجسدية والنفسية، لكل منها ابعادها الفيزيولوجية والثقافية، حاول كشكار الدخول الى عوالمها وملامسة اسرارها الدفينة والتعامل مع كل شخصية بحرفية ليكون الاداء صادقا يقنع المتفرج ويجبره على التفكير في قصة كلّ شخصية، اداء الممثل طيلة الساعة كان متطورا ومتحولا ومتغيرا حسب الشخصية التي يلعبها ومدى حركيتها، فتدفقت الشخصيات من جسد الممثل الواحد واندفعت بدورها على الخشبة لتكون مجموعة في مدى واحد تماما كما يقول باربا "الجسم في حالة حياة يمدد حضور الممثل وإدراك المشاهد. إنه لايعني وجود شخص حاضر أمامنا ولكن تغييراً مستمراً وتفتحاً يتم تحت أبصارنا . إنه جسم في حالة حياة . لقد تم تحوير الطاقة المتدفقة أثناء سلوكنا الاعتيادي لتصبح مرئية بصورة غير متوقعة".
اسامة كشكار ممثل وفنان له القدرة على التعامل مع صعوبة الشخصيات، ممثل يخوض تجربته الثالثة مع المخرج وليد الدغسني بعد مسرحية "وصايا الديك" 2024 و"وشياطين اخرى" 2018، انطلقت تجربته في عالم اب الفنون مع المسرحي امير العيوني في المسرح الجامعي ثم صنع الساحر عز الدين قنون وفضاء الحمراء ملامح ممثل متجدد وقادر على اللعب والإقناع.
"وحدي" نصّ يشاكس السؤال
المسرح حمّال معان، الترميز عادة لغة مسرحية مميزة يتقن وليد الدغسني المسك بزمامها، "وحدي" تجربة مسرحية نصية جديدة كتبها الدغسني لتكون تعبيرة اخرى عن موقف الفنان مما يحدث في وطنه والعالم من صراعات، اختار الدغسني ممثل واحدا ليقدم شخصياته المتعددة، فانصهرت ذات الممثل المبدعة مع وجع الشخصيات والام الوطن، ليكون جسده كما القربان المقدس يقدّم في معبد زيوس طلبا للانعتاق والتحرر من كل قيود البشر.
"وحدي" كلمة تقريرية تحيل الى الوحدة والخواء وهو ما جسّد من خلال السينوغرافيا، فالركح خاو لا ديكور فيه، فقط اقصاه حمّالة للملابس، الجدران والابواب والنوافذ وحتى السيارات جميعها تجسّد من خلال الاضاءة او الموسيقى، فالركح فارغ تماما كما الشخصية فارغة من معنى الفرحة والامل، من خلال الاضاءة والموسيقى حدد المخرج معالم لعبته المسرحية، استعمل اضاءة مكثفة على وجه الشخصية لتبرز ملامحها، فوجه الممثل سيكون حمّال شيفرات النص المسرحي المسكون بالنقد والسؤال.
الوحدة عاصفة ساكنة تحطّم أغصاننا الميتة، وهي مع ذلك تضرب بجذورها في أقصى أعماق القلب النابض من الأرض الحية قولة لجبران خليل جبران انعكست معانيها على مونودرام "وحدي" فالشخصية تعاني من وحدتها القاتلة حدّ اختراع صوت داخلي تحادثه وتشاركه تفاصيل الماضي، هذه الوحدة الذاتية تماهت مع احساس الخيبة الذي عاشه جيل ما بعد 2011، فشباب الثورة التونسية الذين خرجوا الى الساحات بشعار "شغل، حرية، كرامة وطنية" اغلبهم فقد الامل في تحقيق الشعارات فغادر الوطن تاركا احلامه هنا.
والوحدة ايضا احساس عاشه الكثير من التونسيين اثناء بروز الضربات الارهابية، وحدة تشبه كثيرا مرارة الوجع امام الصمت المطبق تجاه المجازر التي يعيشها ابناء غزة، هكذا هي الوحدة احساس تجتمع داخله تفاصيل الالم والمراة واليأس والرغبة في التلاشين تفاصيل جمّعها الدغسني واعطاها روحا والبسها اسامة كشكار معاني مختلفة ليكون العمل مشحونا بالنقد، فمسرح وليد الدغسني مربك ويحفّز الاسئلة عن قيمة الانسان في وطنه وقيمته في الوجود عموما.