العرض الكوريغرافي "نفس" لامال العويني: يبدأ العالم حين ننطلق في الرقص...فارقصوا لتحيوا

تحرر من قيودك، انزع عنك أقنعة المجتمع والدين والسياسة والانتماء الحضاري

والثقافي والتوجهات العرقية والاختلافات الفكرية، اطمرها جميعها في مجرى اودية النسيان وادخل الى عوالم روحك متطهّرا، صادقا ومحبّا لذاتك وقابلا للآخرين بكل اختلافاتهم، كن جسدك وانصت له واستمع جيدا لقصصه وحكاياته المثيرة حينها ستعود طفلا حالما، يلاعب الخيال ويصنع منه اجمل العوالم الملونة وعرض "نفس" لامال العويني يبحث في انسانية الانسان انطلاقا من لغته المقدسة الرقص.

"نفس" ودراماتورجيا قيس بولعراس واداء سهيل بن سعد و سليمة جغام وليلى منكبي وقيس بولعراس وامال العويني وأسامة الداهم وسرور الجبالي، هو رحلة باتجاه الحقيقة، تجربة بوصلتها الرقص لغة وديدن للحرية..

كن جسدك وارقص لتتعرّى من زيف الحضارة

الجسد اصدق اللغات وأقدمها منذ بداية الخلق الى اليوم، الجسد كتاب مفتوح يمكن قراءته دون الحاجة إلى لغة أو ترجمة أو بحث، قصص يمكن الاطلاع عليها وفهمها والاستمتاع بسيرورتها التاريخية والإنسانية دون الحاجة لمترجمين او عالمي لغة وحضارة، فالجسد لوحده حضارة تفتح أبوابها لكل الانسانيات، الجسد لغة تطوّعها امال العويني ليكون نصّها اللامنتهي، وحلمها الممتد إلى ابعد مساحات الفكرة.
الجسد لا يحتاج الى ترجمة، فأجسادنا ترقص حين تسمع إيقاعا موسيقيا جميلا، أجسادنا تنتكس لرؤية دمعة طفل حزين، أجسادنا تنكمش على نفسها لحظة الخوف وتتمدد كما العمالقة حين الشعور بالسعادة، أجسادنا لا تستحق بطاقة هوية او انتماء فهي تنصهر مع الطبيعة وتتماهى مع اصوات الحيوانات وموسيقات العالم، لاجسادنا حكمة في قبول الاخر المختلف لانّ ما يوحدها هو التكوين البشري، أجسادنا تؤمن بالانسانية اكثر من عقولنا، وحين تدع الفرصة لجسدك ليرقص سيتحرر من كل القيود الفكرية المقيتة والترسبات اللانسانية المتوارثة فاترك له الفرصة لساعة من الزمن ودع العقل يخلد قليلا الى السبات وانصت فقط لصوت جسدك لتكون انسانا، ضع الموسيقى لجسدك وسيقودك حتما الى اجمل فضاءات الانسانية كما فعلت امال العويني في عرضها "نفس".
""نفس" تصور موسيقي لالياس بوقرة وتصور تقني وإضاءة محمد زيدان محرزي وصور الفيديو لعبد القادر القارشي العرض يحتفي بالرقص لغة ووسيلة للتواصل، فنحن بعيدون ولكننا معًا من خلال الرقص بعيدا عن الانتماءات العرقية و الجنسيات و الجنس و اللغة ينتمي العالم لفن الحركة التي توحد الإنسان في كونيته فتكون الحركة هي المحرك الأساسي لكل الشعوب، الجسد هذه المرة لن يروي لنا قصة اخرى، الجسد سيروي الجسد هكذا صرحت المخرجة امال العويني للمغرب، وباجسادهم المختلفة فيزيولوجيا سيحدثوننا عن سرّ الجسد ولغته الصاخبة دوما.
خمسة اجساد تتحرك على الخشبة، الخمسة دقائق الاولى جسد ذكوري واحد يرقص، يكتب الياذته الخاصة، في الخلف شاشة تبرز يد مرة بيضاء ومرة سوداء تكاد تخرج من الشاشة باصابعها الخمسة، اليد ترمز الى الوحدة، وحركات الراقصة المنسجمة مع إشارات اليد تلك يؤكد رسالة العرض وهي الدعوة الكلية لقبول الاختلاف، فانا لست انت، ولا يمكن ان نكون نسخا متطابقة ومشوّهة، وجدنا مختلفين والمجال يتسع لنا جميعا تماما كالطبيعة، في مساحة صغيرة تجد كل الالوان، بعد خمس دقائق تتغير الموسيقى وتصبح اكثر قوة وكأنها تدفق للدماء في الشرايين، او هي محاكاة لسرعة نبضات القلب أثناء كتابة اسطر مقدسة اسمها الرقص، ثم يدخل بقية الراقصين، ليشكّل خمستهم باختلافهم يدا واحدة، ممدودة للحب، للسلم، للحرية ولقبول الاخرين، ليكون "نفس" تجربة اخرى تحفر معها امال العويني في ذواتنا وتستنطق اجسادنا لينصتوا فقط لحقيقة انّهم شُكّلوا مختلفين.
تصنع الاضاءة عوالم مبهرة لطرح السؤال عن قيمة لغة الجسد وأثرها على الانسان، الموسيقى بدورها ركيزة اساسية لتفكيك العمل وقراءته، اجساد الراقصين الخمسة ستكون كتابا مفتوحا، رموزا تفكك حسب مدارس انسانية مختلفة، تنساب الحركات متناصة وكانها شعر منظوم في اجمل القوافي، تشكل الاجساد في وحدتها صورة مبهرة تتماهى مع انسانية الانسان وتطوره منذ بداية الخلق الى اللحظة، تبدع الاجساد في استحضار قيم كونية اهمّها الاختلاف من خلال تزيين فضاء العرض والشاشة الى مربعات بيضاء وسوداء تماما كرقعة الشطرنج، وكذلك الحركات المتجانسة حينا والمتنافرة احيانا، وكأنّنا بالفريق يشير الى قيمة الاختلاف، حركاتهم وكأنها نداءات زارادشت حين صرخ "إن الجسد السليم، يتكلم بكل إخلاصٍ وبكل صفاء، فهو كالدعامة المربعة من الرأس حتى القدم، وليس بيانه إلا إفصاحا عن معنى الأرض، ما الجسد إلا مجموعة آلات مؤتلفة للعقل، إن ما يجب أن أومن به يجب أن يكون راقصا" هذا الايمان يتبناه الكوريغراف في عرض "نفس" ليصبح الرقص ديدنهم امام انتفاء كل الاختلافات الدينية والعرقية واللونية واللغوية.

الرقص نصّ لا يحتاج ترجمة ولغة تفهم بالقلب
الرقص هو اللغة الام، هو النص المقدّس الاوّل، يولد الطفل ويكون جسده مطيته الأولى ليتواصل مع الاخرين، فالجسد هذا التكوين اللوني والميكانيكي العظيم له قدرته على الذوبان والانتشاء فقط اثناء الرقص، الرقص منذ بدايات الخلق كان عنوانا للحرية، للصدق، في الميثيولوجيا الاغريقية كانت طقوس الرقص عنوان للتبرك للالهة، والفراعنة حفروا على الجدران صور للراقصات بسرة عارية لانها منبع الانوثة والحياة، احتفت كل الحضارات بالرقص عنوان للخصوبة، للحرية، وللتجلّي، رقص المتصوفة فاتحين الاذرع كانهم طيور تطير تدريجيا حدّ ملامسة الجسد السماء وانفصاله عن الارض، فالرقص سيد كل زمان، رقص الافارقة تعبيرا عن رفض الحرب، يتقرب الهنود الى أربابهم عبر الرقص، يرقص الغجر لولادة القمر، فالرقص أقدس حوارات الانسانية، وما اللونين الابيض والاسود المعتمدين في ملابس الراقصين في العرض الا اشارة واضحة لهذا الاختلاف الذي يقبل به الجسد وتدافع عنه لغته الاسمى أي الحركة والرقص.
على الخشبة أجساد مختلفة، يقدمون حركات وخطوات مختلفة، يسقطون حينا كما تهوى الانسانية امام الحروب والعنصرية والشتات، ثم يستجمعون القوى ويعودون الى الرقص من جديد، في اشارة الى قوة كامنة داخل الكوريغراف والجسد تدفعه دائما نحو عوالم الانسانية، على الركح صنعت الاضاءة في شكل اروقة أقصى الخشبة حواجز تشبه القيود التي يعيشها جسد الانسان المعاصر، ربما هي الاختلاف الطائفي او الديني او العرقي واللوني والانتماء لحزب او حركة ما، كل هذه القيود كلما انتفض الجسد حاول تقليصها فوحده الرقص قادر على السموّ بانسانية الانسان وطمس تلك الاختلاف او تقبّلها.
"نفس" محاولة لتعبيرة فنية انسانية، هو رصد لترددات صوت الحياة داخل كل جسد اذ نعيش اليوم في عالم متشتت ومختلف من حيث اللون والمعتقدات واللغة والأديان لكن تجمعنا الحركة، فهي بمثابة الشيفرة التي نجتمع حولها جميعنا، رغم اختلافنا نرقص، رغم اختلافنا لأجسادنا القدرة على توحيدنا واستنطاق مشاعرنا، احيانا نلتقي بأناس لا نفهم لغتهم لكن نفهم حركتهم ورمزيتها اثناء الرقص، العرض مسؤولية كبرى، هذه المرة لا نطرح قضية واحدة بل نعالج مجموعة من القضايا التي تهمّ الانسان من خلال لغة الجسد، كما صرّحت الكوريغراف امال العويني للمغرب، مضيفة لا ينبغي النظر إلى الاختلافات على أنها حاجز ، ولكن كفرصة للتعلم من بعضنا البعض وتوسيع فهمنا للعالم.

 

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115