... لا نسمع حكاية، بل نُستدعى إلى المحاكمة ولا نرى خشبة، بل مرآة تعكس وجوهنا في لحظة مواجهة عارية أمام الحقيقة، فلا تجمّل ملامحنا ولا تُخفي جراحنا. هي "الجاكارندا" تلك الشجرة الجميلة والرقيقة ذات الأزهار البنفسجية، وهي "جاكراندا" هذه المسرحية التي نثر الكاتب عبد الحليم المسعودي أزهارها على طبق من الشوك والجراح والحنين ليقطفها المخرج نزار السعيدي ويزرعها في مشاهد متوترة، متقلّبة الإيقاع، تسير على الحبل الرفيع بين الجمال والوجع في مساءلة ناعمة ومؤلمة في الآن نفسه لإرهاصات زمن لم يُشف بعد!
في عرضها الأول، اعتلت مسرحية "جاكراندا" أو "تراجيديا مركز نداء" (العنوان الفرنسي للعرض) ركح قاعة الفن الرابع لتقدم آخر إنتاجات المسرح الوطني الشاب صلب مؤسسة المسرح الوطني. عن نص ودراماتورجيا عبد الحليم المسعودي وسينوغرافيا وإخراج نزار السعيدي، جمعت "جاكراندا" من جديد بين هذا الثنائي بعد مسرحية "تائهون" (2021). لكن في هذه المرة كان التيه أكثر كثافة وأكثر رمزية وأكثر هشاشة... تماما كأزهار الجاكراندا في مهب الريح.
وطن بلا مركز نداء
في زمن معلّق بين نهاية العشرية الثانية من الألفية الثانية وبدايات لا تنجلي، تختار مسرحية "جاكراندا" أن تفتح جرح الذاكرة. هي ليست ذاكرة البطولة أو المجد، بل ذاكرة الخيبة والتردّد والبحث المحموم عن المعنى، عن الحب، عن الإنسان. إنّ الشخصيات ليست أبطالا، بل شهودا على زمن شكّلهم كأشباح تجربة اجتماعية منخورة من الداخل، تتهادى فوق رُكام الماضي وتحت ألغام الحاضر.
تمسك "جاكراندا" بيد الجمهور وتجرّه إلى إطار مكاني معلن عنه من العنوان إلى المضمون، هو فضاء معروف ومألوف في تونس، إنّه مركز نداء يحمل اسم "تانيت"، هذه الإلهة القرطاجية التي ترمز للخصوبة والقوة والحماية حتى أصبحت رمزا قارا لأعرق وأشهر مهرجانات تونس على غرار أيام قرطاج السينمائية وأيام قرطاج المسرحية... ولسهولة النطق حتى في اللغات الأجنبية ولعمق الرمزية الثقافية والحضارية أصبح اسم "تانيت" مستهلكا بوقاحة وبفجاجة في مجتمع استهلاكي. لا يحيد مركز نداء "تانيت" في المسرحية عن هذا التوصيف إذ يتحوّل إلى استعارة رمزية عن وطن مأزوم وحاضر هش وجيل لم يرث من وطنه سوى المأزق وضيق الأفق.
في مركز النداء، كان من المتوّقع أن تتقاطع خطوط الهاتف مع خطوط الحياة وتصدح رنّات الهواتف لتعلو أصوات الشخصيات. ولكن كان لمسرحية "جاكاراندا" رؤية أخرى وللمخرج نزار السعيدي رأي آخر وهو الذي اختار أن يكون مركز النداء دون أصوات ودون هواتف في نزوع ربما إلى المسرح التجريدي أو الرمزي . فكأننا به يريد تجسيد الفراغ من حولنا وفينا، وتصوير تلاشي "النداء" الذي لا يجد من يصغي إليه أو يجيب على صداه. وكأننا بموظفي المركز عالقين في طقوس روتينية في انتظار مكالمات قد تأتي وقد لا تأتي في ما يشبه مسرح العبث و"انتظار قودو". ولعل الأهم أن "جاكاراندا" سعت إلى تذكير الجمهور بغياب التواصل الإنساني في عالم مكتظ بالوسائل ولكنه فارغ من المعنى.
في تراجيديا الخروج... أي مخرج لنا؟
يبدو أنه لا مخرج في مسرحية "جاكراندا" سوى العلامة الضوئية "Exit" (خروج) والتي تحوّلت إلى عنصر درامي بحدّ ذاتها في الانتقال بين التلوّن بين الأحمر بما هو مرادف لاستحالة النجاة والأخضر بما هو وهم الخلاص. وفي الحقيقة أحداث المسرحية لا تُروى من داخل مركز النداء بل من فوقه أي من سطح عمارة في حيّ "لافايات"، ذلك الحيّ المتقاطع بين مركز العاصمة وقلب التمزق الطبقي والوجودي. المكان هنا ليس مجرد ديكور، بل مساحة للتحرر والانعتاق كما تقول الشخصيات. وهو استعارة علوية للسقوط كما رآه الجمهور وربما كما قصد المخرج وكاتب النص.
في انسجام مع سينوغرافيا اختارت مبدأ التقشف وراهنت على خلق حالة من الاختناق البصري والوجداني، جاءت مشهدية "جاكاراندا"مشحونة دون فوضى، وكانت الفراغات سواء في الفضاء المكاني أو في الحوار مقصودة لإبراز فكرة العطالة الوجودية التي يعيشها الأبطال.
كمن يحمل النص على كتفيه وبين يديه وفي قلبه، جاء الأداء التمثيلي في المجمل مقنعا ومؤثرا وشاهدا على تناغم لافت بين الممثلين، خصوصا بين حمودة بن حسين وأصالة كواص، اللذين حملا ثقل الصمت بمهارة ووجع الانتظار ببراعة، وترجما ألم البوح بأنين الصوت المذبوح.
وقد جاء النص الذي كتبه عبد الحليم المسعودي شاهقا في لغته وباذخا في استعاراته ومجازاته، فتارة يعود إلى موطن الصبا وأرض الأجداد والأرياف حيث تنمو حقول "بوعرڤون" كوعد جديد بالثورة والحياة، وتارة يزور الفلسفة والأدب والمرجعيات الكلاسيكية. ويحدث أن يغرق النص في التنظير، لكنه في الأغلب يزرع تأملاته في جمل يومية وفي خيبات مألوفة تماما كما حدثنا عنها "هاملت" شكسبير. وهنا قد يبدو السؤال مشروعا عن ضرورة العودة إلى مسرحية "هاملت" في "جاكارندا" بالرغم من أن أغصان نصها تشابكت وامتدت على أكثر من موضوع وقضية في السماء الرحبة للكتابة، وبالرغم من أنّ توقيعها جاء بقلم كاتب مثقف يجيد الإبحار في متون المسرح دون الحاجة إلى الاستعانة بمجداف أمهات النصوص المسرحية.
قطع الألسن في زمن النداء الميّت
في عرضها الأول، كثيرا ما تعثّر انسياب مشاهد "جاكارندا" بطول حبل السرد الذي يمتد إلى حدّ الملل. لم يخل الإيقاع من ثقل النسق والبطء والاستخدام المكثف للرموز خاصة في جزئها الأول. فتلك الساعتان، رغم دسامة المعنى ومتانة الفكرة وردت فيها مقاطع كثيرة كان بوّد المتفرج لو كان يمسك بممحاة ليحذف بعض التكرار والرتابة.
في واحد من أكثر المشاهد قتامة، تقطع إحدى البطلات لسانها بالرغم من أنها الأكثر وعيا وثقافة وثقة بكيانها... لم يكن مشهدا صادما بقدر ما هو تلخيص لما وصلت إليه اللغة من عجز تام وعري واستسلام. وهنا، برز الصراع داخل اللغة نفسها. في حضور للهجة المدينة ولهجة الريف على الركح، تظهر اللهجة وطريقة الحكي والتعبير كخلفيات لهوية تتقاسم التشظي والانشطار رغم الاختلاف الظاهري. فلهجة الريف كانت شديدة ومباشرة، بينما لهجة المدينة بدت أكثر تنميقا ومراوغة لكنها تُخفيان شتاتا وتيها وانكسارا للأمنيات.
في أجواء "جاكراندا"، لم يكن صوت الطاووس مجرد خلفية موسيقية، بل كان نذير خراب يحطم السكينة ويوقظ الأشباح القديمة التي تسكن وجدان الشخصيات حيث تتقاطع مصائر محطمة وأحلام منكسرة. هذا الصوت، الذي يحمل في ثناياه رمزية الكبرياء المفقود والحضارة المنهارة، ينبعث كصرخة تحذيرية من داخل قلب "تانيت"، الإلهة التي صارت شاهدة صامتة على سقوط المعاني والقيم.
في نهاية المطاف تأتي مسرحية "جاكراندا" كمحاولة شجاعة لكسر الصمت في طرح لسؤال وجودي: هل لا يزال لنا صوت؟ أم أنّ كل ما تبّقى هو لسان مقطوع وطاووس مفجوع ومظهر مخادع ووطن موجوع؟