الاغنية التونسية رسمت ومنذ بداياتها الملامح السوسيو الثقافية لهذا الوطن، فالاغنية طالما كانت صوت المكان وتعبيرة عن أحلام الشعب وطريقتهم في التفكير، الأغاني سواء كانت عاطفية او وطنية هي تعبيرة يلتقطها شاعر ويحوّلها الى كلمات تلحّن لتظّل رمزا لتلك الفترة وبعض الأغاني تتوارثها الأجيال وكأنها ولدت لتظل خالدة.
وفي إطار الاحتفاء بالهوية الموسيقية التونسية جمع المايسترو يوسف بلهاني أجيال مختلفة من الفنانين ليغنوا في "سهرة تونسية" احتفت فقط بجماليات هذا البلد عبر الكلمة واللحن.
فسيفساء من الالوان والطبوع التونسية
"سهرة تونسية" عنوان الحفل وكان بمثابة الفسيفساء التي جمعت اجيال فنية متعددة، لكل منهم طريقته جد الخاصة في نحت مسيرته الفنية والدفاع عن هويته، اختلافهم صنع لوحة فنية موشاة بالوان تونس، فحضرت الاغنية الوترية والكلاسيكية والشعبية والموروث، تلوينات في الكلمة واللحن بعضها من التراث الموسيقي التونسي واخرى من الانتاج الخاص لباقة الفنانين المشاركين في السهرة.
خمس عشرة فنانا وفنانة أثثوا سهرة موسيقية تونسية الروح والإنتاج والغناء، خمس عشرة فنانا من أجيال متعددة ساهموا في إحياء الروح للموسيقى التونسية وقدموها امام جمهور قرطاج في عرض قاده المايسترو المبدع يوسف بلهاني، فغنى كل من نوال غشام ومحسن الرايس ومنصف عبلة ونهى رحيم ورجاء بن سعيد وسارة النويوي ومنير المهدي وعماد عزيز وأنيس لطيف وكريم شعيب وفراس قلسي وسمية الحثروبي ومنال الخميري ورحاب الصغير ونجوى عمر، وعلى ركح قرطاج تشاركوا نشوة اللحظة، كل فنان له مسيرته الخاصة وملامح بدايات في مجال الموسيقى تشبهه وحده، كل فنان صنع لنفسه مسيرته وحاول ان يقدم الاغنية التونسية بمدارسها المختلفة، ورغم اختلاف الطريقة والمسيرة اشتركوا في انجاح عرض تونسي الكلمة واللحن، تشاركوا متعة الفرحة برفع راية الاغنية التونسية في مهرجان قرطاج الدولي.
افتتحت الفنانة نوال غشام الحفل فغنت للجمهور "أنا تغربت" والاغنية كتبها الفنان التونسي سمير كمون الذي تغرب عن بلده لاربعين عاما، وفي الأغنية يتدفق الحنين لقرطاج وسيدي بوسعيد والاجواء التونسية، هي أغنية تحتفل بجمال هذا البلد كانت فاتحة السهرة التونسية، وكان لنوال غشام أيضا الفقرة الأخيرة فغنت كوكتيل من أشهر أغانيها مثل "حبك كي القمر" و"راجيت" و"عيني يا للة" وكان لنوال غشام الحضور الاكثر في العرض، لتفرض بصوتها القوي أغانيها التي يحفظها الجمهور التونسي ونوال من ابرز الفنانات اللواتي ظهرن اوائل التسعينات وصعدن سلم النجاح، فنانة تعاملت مع الكبير بليغ حمدي وسيد مكاوي واشهر اغانيها "بكتب اسمك يا بلادي" وهي اغنية وطنية تعدّ الابرز في العالم العربي اليوم، نوال تميزت في العرض وأكدت ان نجاحها وخلود اغانيها لم يكن وليد الصدفة بل كتبته بالكثير من الجدية.
خمس عشرة فنانا تشاركوا العرض ولتجنب طول الحفل اعتمد المايسترو على ثنائيات كانت جد ناجحة، ثنائيات جمعت فنانين باختلاف طبوعهم الموسيقية وطبقاتهم الصوتية ليتشاركوا اداء اغنية او اكثر معها يتشاركان المعنى والمغنى ومن اجمل الثنائيات محسن الرايس ونهى رحيم كل منهما ينتمي الى جيل مختلف لكن جمعتهما الموسيقى والغناء، كما تميز الثنائي رجاء بن سعيد وسارة النويوي ومنير المهدي وعماد عزيز وسمية الحثروبي ومنال الخميري، ومنصف عبلة وفراس قلصي.
اغاني الامس اكثر خلودا من انتاجات اليوم؟
الموسيقى ذاكرة والأغنية عنوان للهوية، الأغنية التونسية والطبوع المميزة لها أبدع فيها عبر عقود فنانين وشعراء وملحنين اجتهدوا ليصنعوا مجد الغناء في تونس، هؤلاء العظماء وان غادرت أجسادهم فأن أغانيهم بقيت بصمة للتجديد في روح الموسيقى التونسية ولا زالت نبراسا للاختلاف وتُقدم في التظاهرات والمناسبات الخاصة والعامة، وفي سهرة 28جويلية 2025 حضر بالغياب الهادي الجويني والهادي قلال وصفية شمية وسلاف..هي فقط أغانيهم يتردد رجع صداها فقد حفظها الجمهور ويتفاعل معها كلما سمعها.
أغان خالدة في ذاكرة التونسيين، تتوارثها الأجيال ويقدمها كل مغن في بداياته، حتى أصبح هذا الارث الفني عنوانا للموسيقى التونسية وباتت أغان مثل "كي يضيق بيك الدهر" و"ريحة البلاد" و"مِنيّرة" و"توسمت فيك الخير" سردية تتجدد وكانها كتبت للخلود، اغاني الاجيال الاولى من الفنانين التونسيين ل اتزال تحافظ على بريقها وثبوتها في ذاكرة الجمهور، أغان تتوارثها الاجيال ولم تنسى، ويتفاعل معها الحضور عكس الأغاني الجديدة او الأغاني الخاصة لبعض الفنانين، فكيف استطاعت هذه الاغنية الثبات لعقود في المقابل عجز الفنانين على فرض انتاجاتهم الخاصّة؟ هل لانّ التونسي يحنّ دائما الى القديم؟ ام لانّ اغلب الفنانين لم يشتغلوا جيدا على انتاجهم ولم يدافعوا عنه يوأدونه كما يؤدون اغان الاجيال السابقة مثل الهادي قلال وسلافة وعلية وغيرهم ممن صنعوا نجومية الاغنية التونسية؟
الاغنية التونسية مزيج من الثقافات والطبوع، ثقافة عربية واندلسية وامازيغية واخرى غربية جاءت مع الاستعمار جميعها شكّلت فيسفساء الطبوع التونسية، وحسب المصادر يذكر انّ تأسيس أول مدرسة تونسية للتعليم الموسيقي يعود إلى فترة الاحتلال العثماني وتحديدا سنة 1879م بنهج باب الخضراء بتونس العاصمة، وفي 1957م سُمّيت المعهد الوطني للموسيقى، بينما يذكر محمد القرفي أن أول مدرسة لتعليم الموسيقى في تونس تأسّست في 1896 على يد «فريمو»(Frémaux) ولفّاج (Laffage) و«شابير» (Chabert) وأصبحت في 1911م معهد تونس للموسيقى، فالاغنية التونسية مزيج بين الحضارات والهويات.
في "سهرة تونسية" ابدع عازفي الالات في نحت عالم مميز من الوان، بموسيقاهم كتبوا اجمل اللحظات، كعادته تميز حسين بن ميلود عاشق الناي وعازفها، ورحل عطيل معاوي بالجمهور الى اجمل عوالم العشق مع الكمنجة، كما قدم الثنائي هيمان كمون وأشرف ملاك مقطوعتين موسيقيتين على الة الاكورديون، وجوهر الهرماسي وأمير هنية على البوق والساكسوفون، لتصنع الالات جوقتها الموسيقية الخاصة وتؤكد تمكن العازف التونسي من اقتناص لحظات الفرحة والابداع، فكانت سهرة تونسية مزيج من الفنون وتلوينة ابداعية تونسية الهوى والروح.