حفل ابراهيم معلوف في مهرجان قرطاج الدولي: عازف الترومبيت العالمي يضرب موعدا مع الفرحة

تصنع الموسيقى المعجزات لغة تتجاوز حدود الزمان والمكان

وحدها الموسيقى تخترق الروح وتدفع القلب للفرحة، هي سيدة كل زمان، صاحبة الرفعة والمقام، الموسيقى لغة حقيقية لا تحتاج ترجمة لا تعترف بحدود الجغرافيا ولا اللون او العرق والمذهب والانتماء فهي صدى الطبيعة وترددات جمال الكون التي يبدع ابراهيم معلوف في التقاطتها وتحويلها الى مقطوعات موسيقية تحفز المشاعر وتخرج البشر من قالب الجليد العاطفي ليصبح جذوة من الحب والأمل والجمال رغم الخراب في العالم.

للحب عزف، للأمل لعب أجمل المقطوعات وللانسان قدم تحيته الموسيقية على أجمل المسارح ركح قرطاج العظيم في موعد استثنائي قدم عبره معلوف البومه "ترومبيت مايكل انجلو".

في محراب السعادة كان لقاء العشق

الموسيقى تعطي روحًا للكون، أجنحة للعقل، طيرانًا للمخيّلة وحياة لكل شيء مقولة لافلاطون طبقها ابراهيم معلوف في الحفلة، فمن سور الى قرطاج صدحت الة الترومبيت بأجمل القصائد، قصائد غزلية تنحت ملامح البلدين وتصورهما في اجمل النوتات، فكلتاهما انثى، و"قرط حدشت" امتداد جمالي لسور، كلا البلدين والثقافتين مزجهما معلوف في إيقاعاته وحمل ملامحهما المميزة في مقطوعات قدمت لجمهر قرط-حدشت الحديثة فكان الموعد الاستثنائي بين عازف عالمي وجمهور متعطش دوما للموسيقى المتجددة المتدفقة تماما كأمواج البحر الذي كان صلة الربط الاولى بين أليسار وموطنها الاول.
ابراهيم معلوف كتب موعدا مع الفرحة، لجمهور الدورة التاسعة والخمسين عزف من البومه الاخير "ترومبيت مايكل انجلو" وقدم مقطوعات مبهجة، منذ اللقاء الأول اخبر الجمهور أن الحفل سيكون بمثابة يوم الزفاف، وباح لهم أن حبيبته هبة طوجي بدورها أوصته كثيرا بقرطاج "هبة اخبرتني: برهوم قرطاج ليس كبقية المسارح" كما تحدث لجمهوره، لتنطلق الرحلة نحو الفرحة ويدخل غمارها معلوف صحبة جيش من باعثي السعادة ومانحي الجمال رافقوه لساعة ونصف من الزمن في قرطاج الابية.
العرض كان رحلة نحو الفرحة، منذ المقطوعة الاولى أي لحظة اللقاء بين الحبيبين، فكلمة "نعم" التي تقال بصوت واثق وقويّ، نعم للارتباط ولتقاسم لحظات السعادة مع الشريك، نعم لفرحة نصنعها بانفسنا ونقدمها لأرواحنا، نعم للحب هكذا صدحت الترومبيت رفقة بقية الآلات لتؤكد انّ الحب والفرحة متلازمين، مشاعر انسانية صادقة تتحول إلى موسيقى بفضل أنامل موسيقار مبدع له قدرة عجيبة على التحكم في الجمهور والتاثير المباشر في احاسيسه وكيفية تقبّل موسيقاه.
"ترومبيت مايكل انجلو" عنوان الألبوم الأخير الذي لعب منه معلوف والفريق أجمل الإيقاعات، تسعة عازفين كانوا أولا على الركح، عازف الدرامز يتوسط الفضاء يخبرهم دوما انّ الايقاعات سيدة الموسيقى وحضورها ضروري لينتشي المتلقي، ثم عازفي قيثارة، لكل منهما طريقته في محادثات موسيقية مع الدرامز او الالات الموسيقية الاخرى، اما قيادة سفينة الفرحة فهي لالات النفخ سيدة العرض وصاحبة الحكاية، الة ساكسوفون وستّة عازفي ترومبيت اجتمعوا في مساحة جغرافية واحدة ليكتبوا للجمهور أجمل اللحظات.
ابراهيم معلوف لبناني فرنسي، يحمل في جيناته الاصول اللبنانية والثقافة العربية وعايش الثقافة الغربية فكانت موسيقاه مزيجا بينهما، سافر والده نسيم معلوف في الستينات ليتعلم العزف على آلة البوق، أب يغادر وطنه حاملا حلمه تاركا وطنه وتاريخه، منه ورث الابن هذا الشغف وعشق الترومبيت، لعبها منذ الطفولة وقرر معلوف الابن ان يكون في الصدارة "البدايات لم تكن جيدة، أبواب قليلة فتحت لي لأني مختلف، لكن قررت أن أكون في المقدمة ولا اكتفي بالأدوار الثانوية" وفعلا افتك ابراهيم معلوف مكانته ونحت مسيرة فنية مميزة ليكون من أشهر عازفي الة الترومبيت اليوم وينافس على الجوائز العالمية، صنع معلوف الابن مجده بفضل شغفه بمعشوقة والده الترومبيت.
مجد ابراهيم معلوف لم يقتصر على التجديد في الكتابة الموسيقية لالة الترومبيت، فمعلوف الابن ورث عن والده ابتكارا مميزا، فنسيم معلوف في الستينات صنع ترومبيت بأربعة صمامات (الترومبيت العادية ب3صمامات) ليستطيع عزف الطرب العربي، ابتكار طوّره ابراهيم معلوف الابن ليصبح له آلته الخاصة وتحمل اسم T.O.M.A، وليست مجرد آلة حديثة بل فكرة لا تعرف الفناء وانتصار لمشروع أب أحب الموسيقى فورّثها لابنه وانتصار لذات مبدعة اختارت الموسيقى نهجها في الحياة، ولتشجيع انتشار الترومبيت بأربع صمامات خلق ابراهيم معلوف اكادمية تعلّم مجانا العزف على هذه الآلة وتوفر الفرصة لمتعلميها ليصعدوا مع معلوف ويشاركوه العزف في اكبر الحفلات تماما مثل التلميذين شهرزاد ومحمد اللذان عززا المجموعة حفل قرطاج.
على الركح كانت الفرحة، كلما انتهت مقطوعة يطلب العازف من الجمهور مزيد الطاقة والرقص، ايقاعات تنساب هادئة من الترومبيت بتعدد أصواتها ثم تصبح أكثر صخبا ومع انعكاس اللونين الأحمر والبنفسجي على الجمهور والركح تصبح المشهدية وكأنها لوحة للرسام الايطالي مايكل انجلو، في العرض رمزيات عديدة وصور مغري المتفرج بمزيد الانصات للموسيقى ثم التفاعل معها وترك الجسد يعبر عمّا يخالجه ليرقص حد الانهاك ويكتب لنفسه موعدا مع السعادة الحقيقية فيدخل محرابها باسم الترومبيت.

الموسيقى التزام بالانسان

موسيقاه عنوان للالتزام، منذ بداياته الفنية وابراهيم معلوف يعزف للانسان، يلعب لجمال الكون ويريد مع كل مقطوعة أن يتشارك الانسانية مع إخوانه على هذه البسيطة، في رصيده العديد من المقطوعات والألبومات واغلبها تشجع على الانسانية، وربما اشهر معزوفاته "القدرة على الحب" وهي مشروع يتخطى النوتة ليرسم ملامح قيم كونية، فمعلوف "يبحث عن صلات مع الناس، ابحث عن المشترك بيننا، لا اعزف فقط لمجرد العزف، بل اعزف كتعبيرة مني عن المحبة" كما يقول في حفلاته ولقاءاته، وللجمهور قدم مقطوعات تحتفي بالهويات المتعددة، موسيقى شرقية وغربية، عزف البوب والجاز والطرب العربي والايقات الافريقية الصاخبة، موسيقاه كانت كما قطعة الفسيفساء ملوّنة بألوان الانسان.
الموسيقى التزام بالانسان، وهي رصيد العظماء للخلود هكذا حيى معلوف روح الراحل زياد الرحباني وعزف صحبة المجموعة اغنية "سلملي عليه" فشاركه الجمهور الغناء، من خلال العزف عبّر عن حزنه لفقدان قامة من قامات الموسيقية العربية فزياد لا يعوّض كما قال معلوف بعد إنهاء المقطوعة.
ولانّه فنان دائم التذكير بالقضايا الكبرى، وكلما صعد على الركح استحضر مآسي الاطفال في العالم، طلب من الجمهور أن يشعلوا أضواء هواتفهم لتكون الصورة بمثابة الفراشة التي ستطير لتمسح عن اطفال غزة الخوف والجوع "لست سياسيا ولكنني إنسان وأب واعرف جيدا معنى خوف الطفل او جوعه، ولا يمكنني العزف دون ان استحضر نضالات أبناء غزة" كما تحدث للجمهور، ثم عزف مقطوعة "وداعا" وهو يناشد بإيقاعاته إنسانيته علّ الحرب تنتهي وتعود للأطفال ضحكتهم، فموسيقى ابراهيم معلوف ومنذ بداياته رديف للحرية ونداء ازلي للانسانية والسلام.

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115