لكنه لم يتكاسل ولم يتواكل في العيش في ظلّ هالة عائلية متوفرة وشهرة فنية جاهزة وطرق معبّدة، بل اختار في سن مبكرة أن يشق طريقه على هواه وطريقته. صنع زياد الرحباني لنفسه أسلوبا خاصا ونحت لنفسه مسارا خاصا. شكّل الراحل هوية فنية خالصة الملامح ترتكز أساسا على السخرية والجرأة والصدق. وفي عمر 69 سنة رحل في صمت بكل كبرياء وبكل مرارة الابتسامة الساخرة التي كانت دائما تميز ظهوره.
هو العبقري الذي بدأ أولى كتابته في عمر 14 سنة، وفي عمر 17 لحّن لفيروز وعاصي يقيم في المستشفى أغنية "سألوني الناس عنك يا حبيبي"... وتتالت الأغنيات والنجاحات، ووراء كل أغنية قصة، ولكل قصة حادثة أو خاطرة أو دقة قلب...
يتجاوز زياد الرحباني كونه مجرد فنان يكتب ويلحن ويغني بل هو حالة فنية خاصة بصوته المتهكم، بنصوصه الساخرة، بموسيقاه التي تقف عند الحد الفاصل بين الجرح والفرح، النخبة والشارع، اليأس والأمل ... لم يكن فقط موسيقيا عبقريا بل هو هوية فنية شاملة وفريدة من نوعها ، وهو الكاتب المسرحي والملحن والمؤلف والشاعر والمفكر الثائر... فليس من الغريب أن تكون عروضه المسرحية مرآة لمجتمعات عربية مهزومة وبائسة ومنغلقة على فشلها وخذلانها...
كانت أغانيه رجع صدى لعواطف المستمعين وهواجسهم وأحلاهم في تقاطع وتشابه مع واقعهم دون تنظير أو تعال نخبوي.
تعترف الذاكرة الموسيقية بأنّ زياد الرحباني هو أحد أبرز المجدّدين في الأغنية اللبنانية والمسرح السياسي الساخر. بدأ مسيرته الفنية مطلع السبعينيات، حين قدّم أولى مسرحياته الشهيرة "سهرية". كما تميزت جل أعماله المسرحية بالكثير من النقد السياسي والاجتماعي في غلاف من الفكاهة وخفّة الظل.
ما بين فيروز وزياد ليست مجرد علاقة أمومة بل تكامل فني رهيب بين صوت يغني ليلمس الضوء وبين شاعر يكتب ليقطف القمر ... لحن زياد الرحباني ووّزع العديد من الأغاني لوالدته السيدة فيروز مما شكل مرحلة جديدة ومختلفة في مسيرتها الفنية، إضافة إلى تعاونه مع عدد من الفنانين.
ذات يوم قال زياد الرحباني ساخرا "بما أنّو ما في شي نعملو... خلينا نعمل شي" لتتحول هذه العبارة إلى شعار ضمني لجيل عربي يعيش تمزقا بين العجز وثورة التغيير.
زياد الرحباني لم يمت بل سيعيش في كل أغنية عذبة وفي كل نكتة سياسية وفي كل سخرية من القدر وفي كل حنين إلى حب قديم.