الموسيقي والباحث كريم الثليبي لـ"المغرب": الموسيقى طاقةُ كونية ... ومقاومة وحياة !

على تخوم الحلم والواقع، يُنصت كريم الثليبي للعالم من خلال وتر

ويعيد صياغته في شكل موسيقى تنبض بالحياة، وتفيض بالأسئلة.هو عازف ومؤلف وباحث موسيقي يرى في الموسيقى لغة أعمق من الكلام، وجسرا يربط الإنسان بجذوره وبأحلامه في آن. إنّ كريم الثليبي ليس فنانا يسعى وراء البهرج والأضواء، بل باحث في الأصوات، منقّب في الذاكرة، يعيد تشكيل اللحظة الموسيقية كما لو كان ينحت قطعة نادرة من النور والوتر. تنبع موسيقاه من هوية أصيلة، لكنها لا تخشى المغامرة ولا التجديد، فهو ابن المدرسة التونسية بروح عالمية، يختزن في عزفه دفء المتوسط وقلق العصر وهواجس الإنسان.

*كيف بدأت رحلتك مع الموسيقى؟ وهل تتذكّر اللحظة التي شعرت فيها أن الفن قدرك؟

كل شيء بدأ في مدينة الحامة من ولاية قابس، حين رأيت أستاذي فرحات اللجمي يعزف كما لو كان مخلوقا من موسيقى. كان يعزف بجنون، ككائن خرافي يشعل النغمة كأنها نار، ويصنع منها سحرا ناعما يُترجم المشاعر دون كلمات . تلك اللحظة لم تكن مجرد إعجاب... بل بداية عشق، عشقت عزفه، وعشقت الكمنجة، ومن هناك بدأت حكايتي.
اكتشفت أنني أستطيع التعبير عن ذاتي، عن العالم، عن كل ما لا يُقال، من خلال الموسيقى. لا لغة منطوقة، لا عبارات مختارة بعناية، فقط إحساس صادق... الموسيقى لا تُسيء الفهم، لا تُحرّف النوايا، لا تُرهقنا بالتأويل. إنّها كائن صوتي، حيّ، خطير يستوعب كل شيء حتى الانفجار في لحظات الغضب أو الفرح أو الحزن... وحتّى الصمت أيضا.

*درست الموسيقى أكاديميا، لكن كيف تعزف موسيقاك الداخلية؟

بالنسبة لي، التكوين الأكاديمي هو تمرين، شكل من أشكال "ترويض"الحسّ الطبيعي، وتقنينه حسب الذوق الاجتماعي في مكان معين وزمان محدد. أما الموسيقى الحقيقية، تلك التي تسكنني، ليست مروّضة. هي عفوية، تلقائية، تشبهني. أنا أختار المعزوفات التي يمكن للآخر أن يستوعبني فيها دون أن يساء فهمي، فأسعى إلى خلق تلك اللحظة المشتركة مع المتلقي، هو بالتفاعل، وأنا بالعزف. هي لحظة من المثاقفة،من المشاركة، من تقاسم الإحساس الجمال.

*في اختتام المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون، قدّمت عرض "الخيل والليل والبيداء"... لماذا المتنّبي تحديدا؟
لأني أردت أن أحرّك الذاكرة العربية، أن أستفزّها. إنّ البيت الذي يقول: "الخيل والليل والبيداء تعرفني..." هو بيت مجد، بيت بطولات. اليوم، الليل لم يعد زمن الانتصارات، بل زمن الانتكاسات. والخيل لم تعد رمز الفروسية والشهامة والوفاء، بل صارت صورة من الماضي. في هذا العرض دعوة لاستعادة ذلك المجد، أو على الأقل لتذكّر أننا كنا يوما كنا فرسانا نمتطي الخيل ولا نقبل أن نُساق.

* كيف تُترجم صورة الفارس، والبيداء، والخيل إلى صوت؟ وهل للكلمات مكان في موسيقاك؟

اخترت ألّا ألحّن القصائد، بل كان يكفي الإلقاء لأنّ الشعر القديم محمّل بالرموز، فيه تكثيف ومعانٍ متعددة، والشجن يسكن كلماته دون أن تُلحّن. بعض أبيات الشنفرى وامرئ القيس والمتنبي لها موسيقاها في حد ذاتها. أنا قليل الاستعمال للكلام في عروضي، لأن الموسيقى غالبا تُغني عن الكلام، وأحيانا تكون الكلمة وحدها كافية لتُبكي دون لحن. ما يهمني هو الجمالية، والاقتصاد في التعبير دون ثرثرة ودون إثقال للحواس وللإحساس.

* تمزج بين التكوين الكلاسيكي والتلوين الشرقي والآلات الغربية... كيف تختار توزيعك الأوركسترالي؟

حسب الوظيفة الدرامية لكل عرض. مثلا في "الليل زاهي"، تخيّلت الصحراء، فجاء التوزيع ليخدم ذلك الإطار الزمكاني، ومثلا في "الليل موّال العشاق"، مزجت بين الإيقاعات المرحة وصدى الأغاني في القرى... إنّ كل آلة موسيقية لها وظيفة وإحساس وطاقة.

* الجمهور التونسي ليس معتادا كثيرا على هذا النوع من العروض... كيف كان التفاعل مع موسيقاك؟

في تونس نفتقر إلى ثقافة البحث الموسيقي، وهذا مؤلم. من يجرؤون على هذا الطريق قليلون، والدعم الرسمي والمؤسساتي غير كافٍ. لذلك، من الطبيعي أن تظهر أسماء قليلة من الباحثين بعد سنوات طويلة. ومع ذلك، حين يلتقي الجمهور بالعرض المناسب في اللحظة المناسبة، تحدث المفاجأة... يُطبق الصمت، ثم التصفيق، ثم الأسئلة المحرضة على التأمل والتفكير والتغيير.

* عرضك "تخيّل" كان أول بسيكودراما موسيقية في الوطن العربي... إلى مدى تعتقد أنّ للموسيقى دورا علاجيا؟

إنّ للموسيقى قُدسيّة، فهي ليست للرقص فقط - رغم أن الرقص ليس عيبا - بل هي لحظة شفاء، لحظة صبروعزيمة وتلقائية.هي ابتسامة خفيفة ودمعة لا نعرف سببها. هي طاقة تنقذنا من السقوط، تجعلنا نحب أنفسنا ونحب الآخر، ونتصالح مع أيامنا وذكرياتنا وذواتنا.

* على ركح مهرجان قرطاج الدولي ستقدم عرض "تخيّل" يوم 8 أوت المقبل .. بماذا تعد جمهورك ؟
أدعو الجموع إلى الاستماع إلى نفسه في رحلة خيالية داخل الذات والموسيقى والذاكرة... وأعدهم ...بأنهم لن يخرجوا من العرض كما دخلوا بل سيغادرون مدارج ركح مهرجان قرطاج وفي داخلهم رغبة جارفة للاستمتاع بالحياة .

* ماهي الرسالة التي يحملها فنّك ؟

إنّ الموسيقى أداة مقاومة، أداة عيش، طاقة عظيمة ومقدسة تحيط بنا، تلهمنا، تفتح أمامنا فينا نوافذ لا نعرفها.

* هل تكشف لنا ملامح مشروعك الموسيقي القادم ؟

سيحمل عرضي القادم عنوان "كونتراست" وفيه اشتغال موسيقي على عناصر الكون الأربعة من ماء وهواء ونار وتراب برؤية تونسية محضة في توظيف لفلسفة النهايات. نحاول أن نتخيّل نهاية الكون بإيقاعات الموسيقى التونسية لنجرب ونكتشف كم هي قادرة على توليد المعاني التعبيرية والأبعاد الملحمية ما بعد الخيال في رحلة ميتافيزيقية.

 

 

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115