الهيئة العامة للدفاع التجاري هل تنجح تونس في صد العاصفة التجارية من الإغراق إلى الإنقاذ ؟

أعلن وزير التجارة والتنمية والصادرات سمير عبيد

عن قرب إرساء الهيئة العامة للدفاع التجاري كخطوة منتظرة لتحصين النسيج الصناعي الوطني و سيتم قريبا إصدار الأمر المتعلق بضبط تركيبة ومشمولات وطرق سير هذه الهيئة فضلا عن البرامج المرافقة لها كما أشار إلى محدودية التجربة التونسية في مجال الدفاع التجاري، واقتصارها على فتح بعض التحقيقات في مجال الإجراءات الوقائية.

فهل سيكون هذا الإطار التنظيمي فعلاً درعاً سيادياً حقيقياً لحماية الاقتصاد أم هو مجرد هيكل بيروقراطي جديد ؟ وهل تملك تونس القدرة والجرأة لتطبيق آليات الحماية المشروعة وفق قواعد منظمة التجارة العالمية دون الوقوع في فخ الانغلاق؟ وماذا يمكن أن نتعلم من تجارب دول أخرى خاضت نفس المعركة؟.

في ظل ميزان تجاري يئن تحت وطأة العجز، ومؤسسات صغيرة ومتوسطة تصارع للحفاظ على وجودها في السوق، و في ظل اقتصاد عالمي لا يعترف بالحدود ويعيد رسم قواعده كل يوم بالساعة والدقيقة ، وفي أسواق لا تعرف الهوادة لم تعد المبادلات التجارية تخضع فقط لقواعد العرض والطلب، بل أصبحت ساحة صراع مفتوح بين مصالح الدول والشركات العملاقة، تجد فيها الصناعات المحلية خاصة في البلدان النامية نفسها أمام عواصف تهدد وجودها، لا من ضعفها الذاتي فقط، بل من اختراق خارجي تنافسي خطير ، و الصناعات المحلية في تونس ليست بمعزل عن تداعيات هذا الصراع العالمي المحموم بل هي أيضا تواجه سقفًا منخفضًا وواردات ضخمة بأسعار مسعّرة وأحيانًا مدعومة، تُجهد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتخلق فائضًا تجاريًّا يكاد يخنق ميزانيتها وبالتالي تتفاقم الحاجة إلى آليات دفاع اقتصادي تكون بنفس قوة الهجوم التنافسي الممنهج الذي تتعرض له.

سياق اقتصادي هشّ وتهديدات مضاعفة

أمام ما تواجهه تونس اليوم من تحديات اقتصادية وتجارية معقدة أبرزها عجز تجاري هيكلي يتجاوز 20 مليار دينار سنوياً، وتراجع القدرة التنافسية للمنتوج المحلي، وموجات متتالية من الواردات المدعومة بأسعار إغراقية، خصوصاً من بعض الدول الآسيوية، لم تعد المنافسة العادلة ممكنة، بل أصبحت الصناعة التونسية تُصارع بأسلحة غير متكافئة وقد ساهمت العديد من العوامل في ترسيخ هذا الاختلال من بينها ضعف الرقابة على جودة الواردات، وغياب آليات الرد الفوري، وتضارب المصالح ، وهو ما يُطرح الدفاع التجاري كضرورة وجودية وليس كخيار سيادي فقط.

تأتي الهيئة العامة للدفاع التجاري المرتقبة، كما صرّح الوزير، لتكون مكلّفة برصد ودراسة الحالات التي تتطلب تدخلاً لحماية الصناعة الوطنية، سواء تعلق الأمر بالإغراق (Dumping) أو الدعم غير المشروع (Subsidies) أو الارتفاع المفاجئ في حجم الواردات (Safeguards). لكن التحدي الحقيقي هنا لا يكمن في تأسيس الهيئة فقط، بل في مدى فاعليتها واستقلاليتها وسرعة استجابتها فهل ستُمنح الأدوات القانونية والتقنية الكافية؟ هل ستكون لديها سلطة حقيقية لاتخاذ قرارات نافذة؟ وهل ستتعاون بفعالية مع الهياكل الجمركية والرقابية والقطاع الخاص؟

تجارب دولية من الردع إلى السيادة الاقتصادية

بين وزير التجارة والتنمية والصادرات سمير عبيد خلال إعلانه عن قرب إرساء الهيئة العامة للدفاع التجاري أنه تم على المستوى العالمي فتح حوالي 7000 تحقيقا منذ سنة 1995 في مختلف مجالات الدفاع التجاري كالإغراق والدعم والإجراءات الوقائية ترتب عنها اتخاذ قرابة 4500 إجراء.

ونذكر من جهتنا في هذا الشأن مثال الهند كنموذج لدولة نامية فرضت قوانين صارمة ضد الواردات المدعومة، واستعملت آليات الدفاع التجاري أكثر من 200 مرة بين 2000 و2020 كما نجحت في حماية صناعاتها الفولاذية والنسيجية من الإغراق الصيني، واستعادت توازنها تدريجياً وتركيا التي أظهرت من جهتها حنكة في استخدام أدوات الحماية التجارية بالتوازي مع الانفتاح على الأسواق، فطبقت رسوماً تعويضية على الواردات التي تهدد صناعاتها الغذائية والمعدنية، ونجحت في دعم صناعاتها الصاعدة وكذلك البرازيل فرغم انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، لم تتردد في تفعيل آليات الدفاع لحماية صناعاتها من إغراق السوق، خاصة في مجالات البلاستيك والحديد والسيارات.

كل هذه التجارب التي ذكرناها تبين أن أدوات الدفاع التجاري ليست حكراً على القوى العظمى، بل هي متاحة لكل من يملك الإرادة، والخبرة، والتشريعات الفعالة.

توصيات إستراتيجية

لكي ينجح هذا الهيكل التشريعي الجديد ويكون قادرا بالياته على حماية النسيج الصناعي الوطني وجب تعزيز الإطار التشريعي ليكون متناغماً مع المعايير الدولية ويمكّن من سرعة اتخاذ القرار تكثيف التكوين والتوعية لفائدة الإدارات والشركات لفهم كيفية تفعيل آليات الحماية وتقديم الشكاوى وخلق نظام إنذار مبكر لرصد تدفقات السلع المشبوهة أو المدعومة علاوة على دعم استقلالية الهيئة مالياً ومؤسساتياً مع تمثيل واسع من القطاع الصناعي والانخراط الفعلي للمجتمع الصناعي في الرصد والتبليغ والمرافعة.

إن ما هو على المحك اليوم ليس فقط ربح السوق، بل بقاء المؤسسات، واستدامة الشغل، وتحقيق السيادة الاقتصادية التي لا تقل أهمية عن السيادة السياسية فالدفاع التجاري ليس انعزالاً ولا انغلاقاً، بل هو حق مشروع وواجب وطني في آن واحد.

فهل سنشهد تحوّلاً فعلياً نحو إستراتيجية دفاع اقتصادي شاملة؟ وهل ستتمكن تونس من التوفيق بين الانفتاح الواعي والحماية الذكية؟ أم سنواصل الاكتفاء بالتصريحات... في حين يستمر نزيف الصناعات المحلية؟

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115