البنك الدولي يمنح تونس 125مليون دينار وتوصيات مؤكدة: هل هي فرصة لإعادة هندسة النظام الصحي أم مجرد مُسكن ظرفي؟

أصدر البنك الدولي يوم 28 ماي 2025 تقريرا قال فيه أن مجلس المديرين التنفيذيين للبنك الدولي وافق على تقديم تمويل بقيمة 125.16 مليون دولار لتونس،

من بينها 17.16 مليون دولار، منحة مقدمة من صندوق الوقاية من الجوائح، لتعزيز فرص الحصول على خدمات صحية قادرة على الصمود وعالية الجودة وسريعة الاستجابة من خلال مشروع تعزيز النظام الصحي في تونس، في خطوة جديدة تعكس الثقة الدولية في قدرة تونس على المضي قُدمًا في إصلاح مؤسساتها الحيوية. هذا التمويل ليس مجرد دعم مالي تقني، بل يحمل خلفه دلالات أخرى تتضمن رهانات إستراتيجية تتعلق ببنية النظام الصحي التونسي، ومستقبل الحوكمة الصحية، وقدرته على مواجهة التحديات المتصاعدة في عالم ما بعد الجوائح.

في وقت تتسابق فيه المتغيرات الوبائية وتسري سريان النار في الهشيم، وتتعمق فيه هشاشة الأنظمة الصحية حتى في أكثر الدول استقرارًا، تجد تونس نفسها أمام لحظة مفصلية تعيد فيها تعريف علاقتها بالحق في الصحة، لا بوصفه خدمة عمومية فحسب، بل كركيزة سيادية للأمن الوطني والاجتماعي، فهل يمثل التمويل الأخير الذي أقرّه البنك الدولي بقيمة تتجاوز 125 مليون دولار، مجرد دعم مالي ظرفي، ام هو فرصة إستراتيجية نادرة لإطلاق إصلاح عميق وجذري لمنظومة صحية أثقلها الإهمال، وأرهقتها التفاوتات الجهوية، وعرتها جائحة كوفيد-19 من أوهام الاكتفاء الذاتي.

بعيدًا عن الشعارات السياسية ومقاربات التجميل المؤسسي، يكشف المشروع الجديد المدعوم كذلك بمنحة من صندوق الوقاية من الجوائح عن تحول نوعي في مقاربة الصحة العمومية، يقوم على تعزيز التأهب الاستراتيجي، وتكريس العدالة الصحية، واعتماد التكنولوجيا كرافعة للتكافؤ والجودة، غير أن هذا التحول يظل رهين وجود إرادة إصلاح سياديّة، تضع الصحة في قلب المشروع الوطني التنموي، لا في هامش الميزانيات المتقلبة أو رهينة الأجندات الآنية.

من الجائحة إلى الإصلاح

مثّلت جائحة كوفيد-19 نقطة تحوّل عالمية في إدراك هشاشة النظم الصحية، وخاصة في البلدان ذات الموارد المحدودة في تونس، حيث كشفت الجائحة عن قصور في الجاهزية عدم توفر مخزونات إستراتيجية للأدوية، وضعف في شبكات التزود بالأكسجين، ومحدودية أسرة الإنعاش تمثلت في ما دون 500 سرير في ذروة الجائحة في 2021. وقد بلغت نسبة وفيات الكوفيد في بعض الولايات الداخلية أكثر من ضعف النسبة المسجلة في العاصمة، ومثّل الإنفاق الحكومي على الصحة سنة 2022، العنصر الأبرز وهذا التمويل الجديد يأتي في إطار استراتيجي حكومي أوسع، يتمثل في السياسة الوطنية للصحة 2030، التي تسعى إلى إرساء منظومة صحية أكثر عدالة ومرونة.

بحسب بلاغ البنك الدولي، فقد أكّد أخصائي الرعاية الصحية بالبنك الدولي ورئيس فريق العمل المعني بالمشروع، ياسين الكلبوسي، أن هذا المشروع سيدعم التحول التكنولوجي والهيكلي للنظام الصحي، ويعزز قدرات القوى العاملة، ويحسن جودة الخدمات، لا سيما في المناطق التي تعاني من نقص الخدمات وهنا نشير إلى أن اغلب البيانات الميدانية تكشف أن أحد أعقد التحديات التي يعاني منها القطاع الصحي في تونس هو عدم التوازن الجهوي الصارخ في توزيع الموارد، والخدمات، والكوادر، حيث تعاني الجهات الداخلية، من نقص حاد في التغطية الصحية الأساسية، سواء من حيث التجهيزات أو العنصر البشري، ففي ولاية الكاف مثلًا، هناك مركز طبي جامعي وحيد يخدم أكثر من 500 ألف ساكن، كما تفتقر مناطق أخرى إلى سيارات إسعاف مجهزة أو طواقم طبية كاملة أيام العطل وتعاني من تأخر الخدمات التي تزيد في نسبة وفيات الحالات الاستعجالية في المناطق الداخلية لتبلغ أضعاف نظيرتها في العاصمة، لأسباب تتعلق في مجملها بالعناصر اللوجيستية وبتأخر الوصول إلى المستشفيات، أو نقص العناية المركزة يكفي أن نستشهد بجائحة كوفيد 19 وظروف معالجتها ..دون اعتبار هجرة الأطباء المختصين إلى الخارج بسبب تراجع ظروف العمل في المستشفيات العمومية والنقص في التجهيزات وضعف الأجور.

يُرجع الخبراء هذه الهوة المتزايدة إلى ضعف منظومة طب الأسرة وغياب الخارطة الصحية التشاركية، إضافة إلى ترهل الإدارة الصحية المحلية وغياب التحفيز للأطباء للعمل في المناطق الريفية، ولهذا، فإن أحد محاور مشروع البنك الدولي يتمثل تحديدًا في إعادة تنظيم الخدمات الصحية المجتمعية، من خلال دعم طب الأسرة، وتعزيز الرقمنة، وتطوير الخدمات الصحية عن بعد ويأمل الخبراء أن تساهم هذه النقلة في كسر المركزية الإدارية، وضمان الاستمرارية في العلاج، وتحسين العدالة الاجتماعية والصحية.

دعائم المشروع لإعادة البناء

قال تقرير البنك الدولي أن مشروع تعزيز النظام الصحي في تونس ينقسم إلى ثلاث مكونات متكاملة، حيث سيعمل المشروع على تقوية النظام الصحي من خلال تطوير أنظمة مقاربة الصحة الواحدة، وتعزيز البنية التحتية للمختبرات والصحة العامة، مما يضمن قدرات قوية للرصد والاستجابة، وثانيا سيعيد تنظيم خدمات الصحة على مستوى المجتمع من خلال تعزيز طب الأسرة، وتقوية قدرات المنشآت بما يتماشى مع الاحتياجات، وتوسيع نطاق تقديم الخدمة الطبية عن بعد والسجلات الصحية الإلكترونية للمرضى، وبالتالي تحسين إمكانية الحصول على الرعاية واستمراريتها وأخيرا سيتمّ العمل على النهوض بالرعاية العاجلة والبنية التحتية للمستشفيات من خلال تحديث أساطيل سيارات الإسعاف، وتنفيذ أنظمة إرسال المواقع الجغرافية، وتعزيز تقنيات تصنيف المرضى وإدارة الأسرّة في المستشفيات، مما يضمن تقديم خدمات فعالة ومتكاملة.

رغم أهمية المبلغ المعلن، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل ان 125 مليون دولار كافية لإصلاح نظام صحي يعاني من اختلالات هيكلية عميقة؟

إن المطلع على ما تبذله الحكومة من جهود متواصلة، يلاحظ بالتأكيد ان الاستثمارات المخصصة للقطاع الصحي في تونس لا تزال دون مستوى التحديات المتراكمة، خاصة في ظل التفاوت الجهوي والضغط المتزايد على البنية التحتية الصحية، فوفقًا لميزانية وزارة الصحة لسنة 2025، فقد تم تخصيص 150 مليون دينار لدعم المستشفيات الجهوية وتسديد ديون الصيدلية المركزية وتوفير السيولة لديها و ضمان توفر الأدوية الأساسية ورصد 100 مليون دينار لضمان تسديد حقوق المزودين، ومع تخصيص 645.8 مليون دينار لدعم البنية التحتية وتجهيز المستشفيات و توفير أجهزة حديثة و تخصيص برامج للوقاية، ورغم أهمية كل المبادرات، إلا أنها تبقى دون سقف الحاجة الوطنية الحقيقية، وهو ما يطرح بحدّة ضرورة إعادة هيكلة أولويات الإنفاق العمومي في القطاع، وتعزيز آليات التمويل المستدام، وضمان عدالة التوزيع الجغرافي للاستثمار الصحي، بما يستجيب فعليًا لحق التونسيين في الصحة والكرامة.

رهانات التنفيذ

يرتبط نجاح هذا المشروع بجملة من العوامل الأساسية أبرزها العدالة الصحية فهل سيتم توجيه الاستثمارات فعليًا نحو المناطق الأكثر تهميشًا، أم ستُستأثر بها المناطق الكبرى كما حدث في مشاريع سابقة؟ والى أي مدى تكون وزارة الصحة قادرة على التنسيق بين المركز والجهات، ومراقبة النتائج بشكل دوري وتسريع الرقمنة التي يجزم كل الخبراء في العالم إنها قاطرة الانتقال من مرحلة العجز إلى مرحلة التفوق فهل تمتلك الدولة البنية التحتية الرقمية، وموارد بشرية مؤهلة كافية لتعميم السجلات الإلكترونية والطب عن بعد؟

من المهم فهم أن إصلاح الصحة لا ينفصل عن بقية السياسات الاجتماعية والاقتصادية، فارتفاع نسبة الأمراض المزمنة في تونس له علاقة بأنماط الاستهلاك والنقل، والتغذية والتلوث، ونمط الحياة عموما لذلك، فإن تبني "مقاربة الصحة الواحدة" One Health، كما يطرحها المشروع، يُعد خيارًا استراتيجيًا يربط بين صحة الإنسان والحيوان والبيئة، لكن هذا التمشي يتطلب تفكيك الجدران بين الوزارات، وخلق ديناميكية حكومية شاملة.

إن مشروع البنك الدولي يمثل اختبارًا حقيقيًا لإرادة الدولة في تحويل التحدي إلى فرصة تاريخية لإعادة هيكلة النظام الصحي. فالسؤال في هذا السياق لم يعد هل لدينا التمويل؟ بل هل لدينا الإرادة السياسية والحوكمة الرشيدة لترجمة التمويل إلى أثر ملموس؟ وإذا ما نجحت تونس في تنفيذ هذا المشروع بشفافية ونجاعة، فسيكون ذلك نقطة تحول مفصلية لا في قطاع الصحة فقط، بل في علاقة الدولة بمواطنيها، وفي استرجاع الثقة المهتزة بفل وعود سابقة لم تحقق.

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115