تخيل ان هناك لعبة ما يمكن ان تدخل غمارها فتفسخ كل اخطاء الماضي وعلّاته وتكتب اسطر نقية جميلة وبفضلها ستتغير حياتك حتما الى الافضل؟ هل تبدو الفكرة مغرية؟ تخيل ان جميعنا انقياء من الخطيئة ، من الالم من الاختيارات غير الصائبة، تخيل ان كل البشر لهم القدرة على محو الماضي؟ فهل يجوز الحديث هنا عن تجربة؟ من هذه الاسئلة انطلقت اللعبة المسرحية "وراك" اخراج اوس ابراهيم.
المسرحية تجربة نقدية جديدة من تمثيل منال بكوري وفريال بوبكر ويحى الفايدي ومحمد بوزيد وبوبكر الغناي ومساعد مخرج مروان المرنيصي وموسيقى اصلية هاني بالحمادي وملابس عمر القفصي وتقني اضاءة حامد سعيد، انتاج شركة art-aws prod بدعم من وزارة الشؤون الثقافية.
التقنيات لخدمة الفكرة الموغلة في البحث عن الانسان
اضاءة ثابتة لا تتغير مطلقا على الركح، ملونة بالاحمر في اشارة على الفزع الذي ستعيشه الشخصيات والمتفرج طيلة العرض، خمس شخصيات تتحرك كامل الفضاء، لكل شخصية لباسها الخاص ولكل حركات جسد معينة، لا يتشابهون في اي شيء فقط يتشاركون نفس المكان ونفس حالة التوتر المنقولة عبر لغة الجسد، اجسادهم ستكون المطية الاولى لنقرئ العمل ونعرف أسرارها، اجساد الممثلين ضاجة بالحياة، بالفكرة وبالرمزية، منذ المشهد الاول سيطرح السؤال، لماذا كل هذا الاختلاف في اللباس؟ ما دلالات ذلك وما تاثيرها على القصة؟ ومع تقدم احداث المسرحية سيكتشف الجمهور انّ كاتب النص ومخرجه وضع المتفرج في خندق صغير عنوانه دوامة الافكار والشعور اللامتناهي بالخوف حد العبثية احيانا.
العنوان عتبة للسؤال والحكاية، "وراك" الجزء العربي من العنوان وهي كلمة من الدارجة التونسية وتعني خلفك، فما الذي تخفيه الشخصيات خلفها؟ اما الجزء الثاني من العنوان فباللغة الانقليزية pet cats وتعني قط المرافقة ونفس القط صورته رافقت المعلقة الرسمية للمسرحية، قط اسود بعين واضحة واخرى لا؟ فما الجامع بين الشخصيات والقطط، وما الذي يجمع القطّ بالماضي او الخلف؟
اسئلة بديهية يطرحها الجمهور الواقع في فخ المسرحية، ومع حديث الشخصيات سيعرف جميع هذه الروابط، فالقط ينبطح ارضا كلما خاف او اراد الهجوم على فريسته، القط يحرك ذيله ورائه كلما استشعر الخطر ومن هذه الرمزية ستكون الشخصيات طيلة المسرحية.
خمسة اشخاص يجتمعون في مكان ما، فضاء خاو من الديكور فقط الاضاءة تميزه، يرقصون اولا، يتركون للجسد حرية الحركة حسب صوت داخلي يصدر من كل منهم، اربعة منهم اجتمعوا لاجل "لعبة" والشخصية الخامسة واضعة قوانين اللعبة، كل شخص سيلعب لاجل الربح، لكن الربح ليس ماديا بل الرابح سيتمكن من محو ماضيه او جزء منه، لعبة مغرية و"الغايمينغ" اليوم من اكثر الاساليب التي يراهن عليها الشباب ويقضون امامها الوقت الكثير ولكل لعبة اسرارها وتاثيراتها السلبية، فتخيل ان تكون انت محور اللعبة وهناك ملايين الناس يشاهدونك عبر الكاميرا ويراهنون على فوزك من عدمه؟ تخيل انك مجبر على التخلي عن انسانيتك ومشاعرك لانك مجرد رهان وعليك فقذ الربح لانّ في خسارتك موتك؟ هكذا يضع اوس ابراهيم ممثليه على الخشبة ويخرجهم من الورق ليكونوا، ضحايا في شكل قتلة، مصاصي دماء بقلوب رحيمة، متناقضات نفسية وقيمية يبدع الممثلين في نحتها وايصالها للمتلقي.
تنطلق اللعبة المقسمة الى اجزاء متعددة، تقدم الحالات النفسية من توتر وخوف وارتفاع للاندرالين بسبب المغامرة عبر الموسيقى التي ابدع هادي بالحامدي في صياغتها لتتناص مع بقية مكونات السينوغرافيا، اللعبة مغرية، مثيرة، تدفع كل شخصية الى اظهار الجزء المتحوش فيها، في احدى المشاهد تلبس الشخصيات اللاعبة نظارات سوداء محاطة بالضوء وتختفي ملامحبقية الجسد فقط صورة الخوف المرسومة على الوجه، والنظارات ابرزت لكل شخصية كيف ستكون نهايتها، وصور اخرى عن ماض قدموا لمحوه فكانت الرحلة بين الخوف والتوتر تشاركها المتفرج والممثل.
"وراك" مسرحية تحفر في مشاعر الحيوانية والوحشية، محاولة لاخراج المسخ داخل كلّ منا، فالمسرحية تهدم كل المسلمات الاخلاقية والعقائقدية والاجتماعية حتى العلمية، لان نتيجة 1+1 لا تساوي 2، لانّ عملية 1+1=nous، واحد زائد واحد عملية رياضية نتيجتها قابلة للتغيير لانها تساوي النحن اذا نزعنا عنّا صبغة الانانية، النحن في صورة وحدتنا ومعرفتنا بحقيقتنا الموجعة احيانا والاعترافباخطائنا بغاية مواصلة البناء واصلاح ما شوّهته افكارنا السلبية، تتغير كل المعطيات اذا قرر البشر ان يكون انسانا، يعيش انسانيته كاملة.
"وراك" تؤكد ان المسرحي ابن واقعه، المسرحي يلتقط اجزاء من اليومي وتفاصيل مختلفة ويحوّلها الى فعل ابداعي واوس ابراهيم مخرج ذكي له قدرة على التجديد ويجبر المتفرج في كل مسرحية ليعيش مساحة من التفكير ويدفعه الى معايشة كل اجزاء العمل المسرحي، فمسرحيات اوس ابراهيم تنخرط فيها اجباريا لانه يشرك الجمهور في اقصة فمنه تبدأ واليه تنتهي.
الممثلين صانعي اللعبة والمتورطين فيها ببراعة
"وراك" مسرحية ابدع الممثلين في ايصال رسائلها، التحم كل ممثل مع الشخصية حد التناص، كل منهم ظهر في شخصية مختلفة عما قدمه سابقا، فحافظ المبدع يحى فايدي على روح الفكاهة في نصه المنطوق رغم الوجع واظهر محرز المثقف والبسيط في الوقت ذاته واستطاع الانتقال بين الثنائيات العديدة بسلاسة ممثل يعرف جيدا قدسية الخشبة ومسؤولية الاداء، وتالق بوبكر الغناي في توظيف مهاراته الكوريغرافية لخدمة شخصية اصيل، فولدت الشخصية مربكة، متعبة، شخصية مصمم العاب الفيديو الهارب من ماضيه بسبب لعبة صممها، لعبة اساسها قطّ يقنع اللاعب تدريجيا بعدم جدواه في الحياة حتى يدفعه الى الانتحار، متلازمة تانيب الضمير تجهعل من اصيل هشا، خائفا وباحثا عن ايّ منفذ، كل المشاعر المتناقضة جمّعها بوبكر الغناي وحولها الى حركات راقصة سمح لجسده ان يكون سيدها.
الشخصية ثالثة اكثرهم رصانة في الظاهر قدمها محمد بوزيد، فادي عاشق البحار والغطس تحت الماء، الموع بهدوء الماء وحكايات المحيط يشارك في لعبة لينسى ماضيه ولكن الهدوء الذي قدمته الشخصية كان مجرد قناع، فهي بركان ثائر فقط ينتظر اللحظة المناسبة لينسى ابنسانيته ويتحوّل الى حيوان له القدرة على القتل فقط ليبقى ويمحي ماضيه وطفولته المريرة لانه ولد خارج اطار الزواج، لعنة لم يخترها فوصمه المجتمع بها.
الشخصية الرابعة والمشاركة في العبة قدمتها فريال بوبكر ممثلة متمكنة من ادواتها رغم حداثة التجربة مسرحية "وراك" ثاني تجاربها المحترفة بعد "قودزيلا" لكنذها كانت واثقة ومتمكنة وابدعت في تقديم شخصية "هند"، تتقن الالمانية وتراوح بينها والعربية، شخصية الام المكلومة في ابنها، تظهر الكثير من القوة وتبطن هشاشة انثى تحتاجا عناقا لتغرق في دموعها، الممثلة كانت تلقائية وصادقة وجراتها في الشخصية صنع الفارق وكانت مختلفة عمّا قدمته سابقا، حرصها على ايصال ابعادالشخصية وتفكيك شيفراتها يثبت رغبتها في التجديد والتجدد، فالممثل جسد حيّ وحالم ابدا.
اخر الشخصيات، غامضة، مثيرة، واضعة القوانين والوحيدة العارفة بمصير الشخصيات، تلبس الابيض والاسود في اشارة مباشرة الى ثنائيتي الموت والحياة، صلبة، صلدة بصوت انثوي رقيق تسيّر كامل المجموعة وتجبرهم كلّ مرة على مواصلةاللعب، بين رقة الممثلة منال بوبكري وقوةالشخصية واختلافها صنعت مساحات للسؤال وللعب، الشخصية الغامضة يكتشف المتفرج ان بدورها جزء من اللعبة هي الاخرى ضحية البلد ذلك هجرته وارادت ان تشاهده من فوق حتى يظل جميلا، فالشخصية التي ظهرت طيلة العمل وكانها الة دون مشاعر نكتشف فجاة انها كتلة من المشاعر الانسانية التي ستنساب وما وجود المجموعة في لعبة "متخيلة" الا محاولة منها لرجّهم علّهم ينهضون من سبات الانانية ويزيحون صفات الحوانية ويبحثون داخلهم عن انسانيتهم الحبيسة.
مسرحية وراك لعبة مسرحية ممتعة، تجربة في التفكير والتدجديد خاض غمارها اوس ابراهيم ومروان المرنيصي وهاني بالحمادي وعمر لقفصي وحامد سعيد ويحى فايدي وبوبكر الغناي ومحمد بوزيد وفريال بوبكر ومنال بكوري فكانت الخشبة فضاء للتجريب واللعب وبدت الحكاية المتخيلة كانها الحقيقة"ومثلما في أية لعبة من ألعاب المغامرات، ففي المسرح أيضاً توجد قوانين قاسية، وبالتالي فالمعرفة الحاسمة بقواعد اللعبة وقوانينها، كما في أية لعبة من ألعاب المغامرات، هي تحديداً تلك التي تعمل على تفجير السعادة المتأتية من نكران الذات أثناء الفوز" وهو ما عاشه الممثل والمتفرج طيلة ساعة من اللعب والسؤال.