يرحل الجسد ليفكك شيفرات الواقع ويحولها الى لغة صامتة وصاخبة بالتمرد، هي لغة الثورات الازلية، يصنع الجسد إلياذته الخاصة ويحلق الراقص في سماء الإبداع والنقد فيكون الرحيل جميلا.
الرقص مساحة مطلقة للحرية، الرقص مساحة للحب وتعبيرة منفجرة ومنفلتة، الرقص مساحة ثريا بوغانمي للتفكير وللبحث عن الحقيقة، مع الجسد تكون الرحلة اجمل واكثر متعة ففي رحاب الجسد وعوالمه يكون التناص بين الفكرة والحرية ويصبح الجسد حرّا، منفلتا كريشة فنان عاشق، هكذا تنفلت ثريا البوغانمي ومجموعتها الحالمة في عرض "رحل" الذي عرض ضمن فعاليات الدورة السادسة والعشرين لمسرح التجريب بمدنين.
الرحلة في الذاكرة أصعب من رحلة المكان
"رحل" هو عنوان العرض الكوريغرافي التجريبي، تجريب على الفضاء، تجريب على الذاكرة الانفعالية للممثل الراقص، تجريب على الذاكرة الجماعية وتجريب على مساحة خيال الممثل ومحاولة استكشاف الجوانب المظلمة في الجسد، هو "رحلة" البحث عن حقيقة الانسان منذ اللحظات الاولى لتشكل الوعي الى حين الموت اذ لا وجود لحقيقة واحدة ومطلقة.
رحّل" كوريغرافيا وإخراج ثريا بوغانمي ونصوص لعبد الحليم المسعودي، سينوغرافيا لصبري العتروس وحسين التكريتي وموسيقى لنصر الدين الشبلي واداء صوتي لمحمد شعبان، العمل من تمثيل واداء كلّ من قيس بولعراس وحسام الدين عاشوري وهادية عبيد وعز الدين بشير واسماء مروشي وأسامة شيخاوي وبوبكر غناي.
تصنع الموسيقى حوارا متميزا بين الممثل والمتلقي، موسيقى أبدع في صناعتها نصر الدين الشبلي، تتماهى مع دورة الحياة منذ الصرخة الاولى الى اخر نفس قبيل الموت، بينهما صراع وفرح وحب وخوف واحاسيس متناقضة يلتقطها الشبلي بحساسية الفنان ليصنع منها موسيقى راحلة تماما كرحلة الفكرة التي تتشكل من العدمية، الموسيقى بايقاعاتها الصاخبة حينا والهادئة حينا اخر في مشاهد اخرى تصبح كتعويذة الجدات لحماية ابنائهن من الموت المحدق.
لك ان تنصت جيدا الى دقات قلبك، يمكنك الرحيل بعيدا في ذاكرتك الدفينة، طرح السؤال مباح أمام الموسيقى الصاخبة وحركات الراقصين المتسارعة يمكنك فتح كل الأدراج المغلقة، فأمام لغة الجسد كل الحديث مباح وامام لغة الجسد يمكن للمتفرج ان يتأمل ذاته وافكاره وقراراته، فلا وجود لمعنى "الكبت" او "المنع" في لغة الجسد وحده الفكر الحرّ يضيء ليجعل من المتلقي يقف امام مرآة حقيقته ويطرح السؤال هل حقا انا حرّ؟ هل فعلا افكاري منعتقة من نواميس المجموعة؟ هل يمكنني القطع مع عقلية القطيع وتاسيس مملكتي الفكرية الخاصة بي؟ هل استطيع تلوين حياتي بألوان اكثر زهوا من سواد المجموعة؟ واسئلة كثيرة تطرحها اجساد ممثلين قدموا لساعة من الزمن رحلة فكرية عميقة وحقيقية تنتصر للجسد والحرية والإنسان الحالم والواعي.
الجسد يصنع حريته كلما رقص
"رحل" تجربة مسرحية راقصة، تجربة مختلفة تواصل من خلالها ثريا البوغانمي صناعة فرجة متميزة تؤثث عبرها عالمها المسرحي والفني المسكون بفكرتي التجريب والتجديد، فالبوغانمي استاذة مسرح وتعمل على "الرقص المسرحي" كتعبيرة فكرية وفنية تخترق ذهن المتلقي وقلبه دون الحاجة الى نص منطوق اذ تحول جسدها الى رسالة مفتوحة تتحدث عن الجمال وصدق الجسد كلما تحدث.
الجسدُ قبلَ كلِّ شيءٍ "جسدٌ متمرِّسٌ بالحياة" بدلاً من كونه "جسداً خاضعاً للمعرفة العلميَّة" هكذا يقول نيتشه عن الجسد، واجساد الممثلين الراقصين كانت بمثابة مبحث فكري وجمالي مفتوح لجمهور التجريب، نوافذ مشرّعة على الامل والوعي والنقد ولكل متفرّج الحرية في فتح اي باب يريده، تجربة تقسم عوالم الانسان الى خانات مختلفة يقع التعبير عنها بالاضاءة مع اروقة محددة يتحرك داخلها الجسد الثائر الذي تسكنه روح تتوق الى هدم الموجود وبناء عالم منشود بالسؤال.
"رحل" هو رحلة في الفكر والوعي وليست رحلة في المكان او الجغرافيا، رحلة في التاريخ والانصات لانتصارات الذات، تجربة فنية اعتمدنا من خلالها الجسد لغة ومساحة للتجريب، ربما فضاء الفكرة والحركة واحد لكن لغة التعبير مختلفة ومتعددة، فكل يعبر عن وعيه بطريقة ووسيلة تختلف عن الاخر، جميعنا رحل منذ تشكل وعينا بذواتنا، رحل في احاسيسنا وافكارنا ومشاعرنا، رحل في اللغة وفي الجسد والكلمة هكذا هو "رحل" كما تراه مخرجته ثريا البوغانمي الباحثة في الذاكرة والحافرة دوما في خفايا الجسد.
للرقص المسرحي خصوصياته فهو مزيج من لغتين متكاملتين، لغة المسرح الباحث منذ بداياته عن الحقيقة والفرجة ومشهديات احتفالية وفكرية ولغة الرقص الحالمة والناطقة بمشاعر الراقص، لغة تترجم الاحساس الى شيفرات تمتع المتلقي وتسكنه بالنشوة، بين هاتين اللغتين يقف الممثل شامخا، باحثا عن لغة ثالثة تمزج بين اللغتين السابقتين تكون منفلتة ومتفردة فكأن الرقص المسرحي وسيلة للفرحة والفرجة ومشاكسة كل المشاعر المختلفة.
تصنع الاجساد تاريخها الخاص بها، تعيد كتابة الفكرة وتتمرد على النواميس والمعتقدات، على الركح تصبح الاجساد فوانيس تضيء الدروب المظلمة وفكرة فتاكة تقصف كهوف الذاكرة المنغلقة وتشرّع ابواب الامل، تجربة فنية تصنع الفرد المبدع وتخرجه عن المجموعة وطوعها، هي لقاء بين التمرد والتفرد يقودها جسد الممثل المفكر "الرعاع اعتنقوا معتقداتهم بدون براهين، فكيف يمكنك أن تقنعهم بزيفها من خلال البراهين؟ إن الإقناع في سوق الرعاع لا يقوم إلا على نبرات الصوت وحركات الجسد، أما البراهين تثير نفورهم" كما يقول نيتشه واجساد الراقصين كانت اصدق برهان على الرغبة في التغيير.