وجدت على شواطئ الجهة خلال الأيام الثلاثة الفارطة بالـ70 جثة لمهاجرين غير نظامين، وحتى تكون الصورة أكثر وضوحا وجب التنويه بأن الرقم خاص بولاية صفاقس فقط.
حجم الفاجعة وهولها يجعلاننا أمام حدث جلل يكشف بشكل واضح وصريح عن وجود خلل في معالجتنا- كل الإطراف- لملف الهجرة غير النظامية وان الجانب الدرامي للملف حجب جملة من الحقائق الموضوعية والمهمة، التي تجتمع كلها لتبين ان تونس لم تنجح إلى حد اليوم في رسم سياسات عمومية لمعالجة هذه الظاهرة بشكل شامل ومنصف.
فالأعداد التي سجلت خلال الأيام القليلة الفارطة عن عدد المفقودين او المتوفين، باتت لدى الجهات الرسمية -للاسف- بمثابة إحصائيات يقع إدراجها في جداول مخصصة بشكل دوري تمهيدا لاحتساب عدد القتلي والمفقودين والواصلين إلى الشواطئ الأوربية أو من وقع إيقافهم وأحبطت عمليات هجرتهم.
وهذه المعالجة الإحصائية على «برودتها» تخبرنا أن الهجرة غير النظامية في البحر الأبيض المتوسط في تزايد مضطرد فمنذ بداية السنة إلى غاية 31 مارس 2023 بلغ 1888 تونسيا وتونسية السواحل الايطالية، أي ضعف العدد المسجل في ذات الفترة من السنة الفارطة والمقدر عددهم وفق إحصائيات وزارة الداخلية الايطالية بـ914 شخصا.
هنا نتحدث عن رقم يتعلق بمواطنين تونسيين، لا عن مجمل عدد المهاجرين غير النظامين الذين ينطلقون من السواحل التونسية في اتجاه أوروبا عندها ستتضاعف الأرقام لتصل الى حوالي 15 ألف مهاجر لتكشف عن أن تونس باتت بوابة الانطلاق الأولي نحو ايطاليا رغم منع السلطات التونسية خلال الثلاثي الأول لسنة 2023 حوالي 14 ألف مهاجر غير نظامي بإحباطها لأكثر من 500 محاولة هجرة عبر السواحل التونسية واعتقالها لـ 63 شخصا بتهم التورط في عمليات تهريب البشر.
هذه الأرقام المفزعة تبين بشكل دقيق وجود خلل في كامل المنظومة المعالجة لملف الهجرة غير النظامية، وان الاقتصار على الجانب الأمني لن يغير من الوقائع الموضوعية التي تغذي الهجرة غير النظامية، فحقيقة وجود شبكات تهريب واتجار بالبشر تنشط بين ضفتي المتوسط أمر لا يمكنه أن يفسر لوحده تنامي الظاهرة ولا سبب فشل المعالجات المتبعة إلى غاية الآن طالما أننا ننظر إلى الأمر من زاوية نظر أوروبية بالأساس إذ تنطلق خيارتنا السياسية المتبعة في ملف الهجرة منذ بدايتها بإقرار ضمني وصريح بأننا نتبع السياسات الأوروبية التي اعتمدت في تسعينيات القرن الماضي وتمت صياغتها لتتناغم مع المصالح الأوروبية بالأساس والتي تضع قيودا امام تنقل الأفراد فقط، والتي قادت اليوم الى ازمة الهجرة غير النظامية التي تعالجها أوروبا أساسا عبر مقاربة أمنية مع عملية إدماج اقتصادي مبتورة تضمن لأوروبا حماية حدودها البحرية مع تحكمها الكامل في عملية الهجرة بما يتناسب مع ما تحدده من حاجيات في سوق الشغل.
الخلل هنا ليس في الجانب الأوروبي فقد رسم سياسات تخدم مصالح دول الاتحاد، بل ان الخلل في غياب سياسة عمومية تونسية تتناول ملف الهجرة بشكل موحد أي لا تقبل بان يقع تجزئته الى قسمين، هجرة نظامية وأخرى غير نظامية، فإقرارها بالتقسيم قبول بالاستجابة لسياسات أوروبية همها الأساسي ان يتم توجيه اهتمام الدولة التونسية الى مراقبة البحر الأبيض المتوسط وتغفل عن حماية حدودها البرية، التي تواجه فيها اليوم تحديا يكمن في منع نشاط شبكات التجارة بالبشر عبرها.
كما أن السياسات التونسية المتبعة اليوم تعجز عن فرض مصالح تونس، ذلك أن فصل ملف الهجرة عن ملف التجارة البينية والتنمية والتعاون الدولي بجعله ملحقا ثانويا او جزءا من برامج الدعم الأوروبي لتونس مما حال دون أن تدافع الدولة التونسية عن مصالحها في المفاوضات. من ذلك مفاوضاتها في ملف تصدير حزمة من المنتجات إلى أوروبا كمواد خام لا يسمح بدخولها كبضائع، كزيت الزيتون المعلب وعدد أخر من المنتجات التونسية.
هذه عينة تشرح بشكل جلي التداعيات السلبية لغياب سياسات عمومية في ملف الهجرة وعدم وضع تصورات شاملة ومنصفة لتونس وللتونسيين كفيلة بإبراز أهمية رسم سياسات عمومية تونسية تنظر لملف الهجرة على انه وحدة متكاملة لا كعناصر مجزأة تتكبد فيها الدولة التونسية الأعباء بمفردها.