الصراع الروسي الغربي: إعادة رسم العالـم بالقوة

حملت الساعات الأخيرة تطورات في المشهد الدولي

قد يكون أبرزها التهديدات التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد روسيا أو أية دولة تواصل شراء النفط الروسي بعد دخول العقوبات الجديدة حيّز التنفيذ، في إعادة لتشكيل المشهد الدولي على قاعدة «نحن وهم».

هذه التطورات تكشف أن الصراع الروسي الأميركي/الغربي بات اليوم أكثر تشعّبًا وتعقيدًا من أي وقت مضى. ففي خضم التحركات العسكرية والتوترات السياسية، والتلويح المتبادل اليوم بالسلاح النووي، يبدو أن الجميع بات يدفع نحو التصعيد وفرض معادلات دولية جديدة بالقوة.

هذا التصعيد النووي والخطابي يمثّل تطورًا خطيرًا في سياق المواجهة المفتوحة بين موسكو والغرب، ويعكس التغيرات العميقة التي يشهدها النظام الدولي، إذ تكثّفت المؤشرات التي تفيد بأن الصراع تجاوز الحرب الأوكرانية، وأصبح صراعًا استراتيجيًا شاملًا يمهّد لإعادة رسم النظام العالمي ووضع قواعد جديدة له، في ظل تراجع لآليات الدبلوماسية.

إذ بات من الجلي أن أطراف الصراع اليوم تعتمد الاستنزاف كاستراتيجية لإدارة معاركها، ليكون لدينا مشهد معقّد ومتداخل. فمن جانب، لدينا موسكو التي تسعى إلى توسيع تحالفاتها وتعميق حضورها في إفريقيا وآسيا، بتوظيف صادرات الطاقة والقمح، مستفيدة من حجمها في السوق الدولية ومن سلعها الاستراتيجية التي سيكون الاستغناء عنها مكلفًا للاقتصاد العالمي.

أوراق القوة التي توظفها روسيا اليوم في مواجهة العقوبات الاقتصادية الغربية أصبحت محل استهداف من قبل الولايات المتحدة الأميركية، التي لم تكتفِ بمهلة العشرة أيام لوقف الحرب، بل شرعت في توجيه تهديدات للدول التي تشتري الحبوب أو النفط الروسي، بهدف الضغط لدفعها إلى قطع علاقاتها الاقتصادية مع موسكو، وهو ما تعتبره إدارة ترامب خطوة أساسية لضمان تأثير العقوبات الاقتصادية السابقة أو المزمع تطبيقها على روسيا ودفعها إلى إنهاء الحرب.

تصوّر أميركي يعكس حجم التناقض في التحالف الغربي، الذي يضم دولًا من آسيا على غرار الهند، والتي هُدّدت برفع التعريفة الجمركية إن استمرت في شراء النفط الروسي. فالتلويح الأميركي بعصا العقوبات لم يعد مقتصرًا اليوم على روسيا، بل طال حلفاءها أنفسهم، رغم إدراك واشنطن أن استجابة هؤلاء الحلفاء لها قد تجرّهم إلى المستنقع الذي وقعت فيه أوروبا.

فالاتحاد الأوروبي، الذي يُعتبر الطرف الأكثر تضررًا من العقوبات الاقتصادية على روسيا ذاتها، يشهد اليوم تململًا وتذبذبًا داخليًا نظرًا لوضعه الصعب. فهو محاصر بين الحاجة إلى مواجهة ما يعتبره تهديدات عسكرية واستراتيجية من روسيا، وبين التعامل مع ضغوط الحليف الأميركي، الذي لم يعد يُخفي توجهه الانعزالي وميله لفرض أجندة أحادية على حساب أبرز حلفائه الأوروبيين.

وضع فرض على الاتحاد الأوروبي اليوم البحث عن تحقيق «الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي»، الذي يقوم على رافعة أمنية تمثّلت في «برنامج العمل الأمني الأوروبي»، والذي خُصص له تمويل بـ150 مليار يورو لاقتناء تجهيزات دفاعية، إضافة إلى تحسين بنيته التحتية الأمنية والعسكرية، لتكون مهيّأة للتعامل مع أية طوارئ عسكرية. في انتظار أن ينجح الاتحاد في صياغة رافعته السياسية التي تتمثل في توحيد رؤيته، وهو ما يبدو صعبًا في ظل تضارب مصالح الدول الكبرى والصغرى داخل الاتحاد، وتعارض استراتيجياتها، مع تنامي المدّ الشعبوي الذي لا يرى في روسيا بوتين خطرًا حقيقيًا.

هذا الصراع الروسي الأميركي/الغربي أعاد تشكيل المشهد خارج الفضاء الغربي الأبيض، لتتخذ اليوم دول الجنوب العالمي خطوات تبتعد بها عن الاصطفاف التقليدي خلف الولايات المتحدة الأميركية والتحالف الغربي، لصالح سياسة أكثر استقلالية تقوم على خدمة مصالح هذه الدول، وهو ما برز في الموقف الروسي الرافض للضغط الأميركي بخصوص ملف النفط، إضافة إلى الموقف الهندي الذي تمسّك بحق الهند في اختيار شركائها الاقتصاديين.

في هذا السياق، يتجاوز الصراع الغربي الروسي كونه معركة مجالية منحصرة في رقعة جغرافية محددة، ليصبح صراع هيمنة وتوزيع نفوذ. لقد تجاوز كونه حربًا تقليدية، ليصبح مواجهة شاملة ستُحدّد نتائجها طبيعة النظام العالمي وشكل العالم في المستقبل. وفي ظل هذا التعقيد، يبدو العالم مفتوحًا على احتمالات شتّى، ومشحونًا بتناقضات لم يعد ممكنًا تجاهلها أو تجاوزها

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115