يجمع رئيس الجمهورية بعدد من الوزراء المعنيين بالتربية والتعليم العالي والتكوين المهني والثقافة والشباب والشؤون الدينية. وذلك في سياق سياسي يضع مسألة إصلاح التعليم ضمن أولويات الدولة، بل يصنّفها، وفق تعبير رئيس الجمهورية، كإحدى الجبهات المركزية في معركة التحرّر الوطني الشامل.
هذا الخطاب الحماسي بشأن مسألة إصلاح التعليم لا يخلو من دلالة تعكس وعيًا سياسيًا بأزمة المدرسة التونسية وضرورة مراجعة دورها. غير أن هذا الوعي، رغم وجاهته، ما زال عالقًا في حلقة الشعارات السياسية، دون أن يتحوّل إلى خطة عملية واضحة المعالم، تُجيب عن سؤال جوهري وهو: أي إصلاح نريد للتعليم؟ ومن أين نبدأ فعلاً؟
وهنا احتكرت السلطة الحديث عن الإصلاح وجعلته عنصرًا في الخطاب السياسي العام، يقدّم وجهة نظر ترى في المجلس الأعلى للتربية والتعليم، الذي نصّ عليه دستور 2022، هو الإجابة عن هذه الأسئلة. فمن منظور السلطة، يتجاوز المجلس كونه إطارًا إداريًا، ويرتقي ليصبح آلية استراتيجية للإصلاح، لا تزال في مستوى الفكرة المعلّقة، التي لم يُفتح بشأنها النقاش العام، ولا قُدّمت رؤى وتصورات واضحة.
وغياب النقاش هنا يمتدّ ليشمل كل عناصر مسألة الإصلاح، إلا إن اعتبرنا الاستشارة الوطنية الإلكترونية التي لم تنجح في إثارة نقاش عمومي يرتقي إلى أهمية اللحظة، تختزل هذا النقاش وتكثّفه بأسئلة وحزمة من الأجوبة المقترحة التي كانت تقنية بيداغوجية بالأساس، ولم تتطرّق إلى الأسئلة الجوهرية.
لتظلّ الأسئلة الأساسية مغيّبة عن النقاش والرأي العام، وتغيب النخب التربوية والجامعية من المشاركة في حوار وطني فعلي، يمكنه أن ينقل الحديث عن الإصلاح من الخطاب السياسي العام إلى الواقع، ومن كونه شعارات سياسية إلى خطة وبرنامج تفصيلي، منهجيته واضحة ومعلنة.
ليتكرّر مشهد مألوف، سلطة تسوّق لفكرة الإصلاح، ولكنها لا تبادر إلى صياغته الفعلية. وهو ما تكرّر خلال السنوات الفارطة في التعاطي مع ملف التعليم، الذي عرف عشرات المحاولات الإصلاحية التي اتّسمت بكونها مقاربات تقنية وجزئية. تم فيها الاقتصار على تنقيح بعض البرامج أو تعميم التكنولوجيا، أو تجريب أنماط تعليمية جديدة، دون أن تلامس هذه المحاولات أصل الأزمة.
فما تعانيه المنظومة التربوية التونسية ليس خللًا في البرامج، بل أزمة رؤية شاملة، لم تُحدّد فيها بعد الغايات والهوية والدور المنتظر من نظامنا التعليمي والتربوي. فالسؤال الذي لم نجب عنه بعد هو: ما الغاية من المدرسة في تونس اليوم؟ وهل نريد منظومة تُنتج شهادات، أم نريدها مصنعًا للمعنى والمعرفة؟ هل نريد من المدرسة أن تكون أداة للارتقاء الاجتماعي، أم آلية للفرز الطبقي؟ هل نريدها فضاءً للعدل والحرية والإبداع، أم مؤسسة بيروقراطية تخرّج موظفين؟
أزمة انعكست اليوم على معاشنا، فاليوم نحن إزاء تآكل تدريجي في الثقة الاجتماعية تجاه المدرسة العمومية، التي فقدت دورها كقاطرة للمجتمع في ظل انسحاب الدولة تدريجيًا من مسؤولياتها، جعلت من الأسر التونسية والمتعلمين يرون في المدرسة ومنظومتنا التربوية برمّتها عبئًا لا تمنح الأفراد فرصًا حقيقية للنجاح، بل تعيد إنتاج حرمانهم وترسّخ موقعهم على الهامش.
ولوضع حدّ لهذا الانحراف، لا بد من اعتراف جريء بأن المنظومة التربوية بشكلها الحالي قد استنفدت أغراضها، ولم تعد قادرة على مواكبة تطلّعات مجتمع متغيّر. هذه الشجاعة في التشخيص هي الخطوة الأولى نحو تأسيس جديد. لا مجال لمواصلة سياسة الإنكار أو الترقيع، بل لا بد من وقفة مكاشفة وطنية تُعيد طرح السؤال من أساسه: ما المدرسة التي نريد؟ أيّ مجتمع نرغب في بنائه عبر التعليم؟ وما القيم التي نريد ترسيخها في الناشئة؟ وأيّ توازن نرجوه بين المعرفة والحرية، بين النجاعة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية؟
وفي هذا الصدد تأخّرنا كثيرًا، وبتنا اليوم أمام آثار الانحراف في السياسات التعليمية التي أفضت إلى إنتاج أجيال تفقد الثقة في المدرسة كمؤسسة. ولهذا، فإن الإصلاح ليس مجرد خيار سياسي، بل هو واجب أخلاقي تجاه الأجيال القادمة.
نحن اليوم أمام خيارات محدودة، إما أن نختار بجرأة الانطلاق في مسار إصلاحي شامل، قائم على رؤية واضحة، تُعيد الاعتبار للمدرسة العمومية أو أن نفرغ الاصلاحات من مضمونها ونخاطر بالبلاد والعباد