وهو ما تحمله التطورات الأخيرة وما رافقها من جدل حول وضع القضاء التونسي، الذي أصدر يوم الجمعة الفارط حكماً بالسجن خمس سنوات ورقابة إدارية بثلاث سنوات في حق القاضي الإداري السابق والمحامي أحمد صواب، على خلفية تصريحات أولتها الدائرة المختصة في قضايا الإرهاب كـ«تهديد للسلطة القضائية».
هذا الحكم الابتدائي، وما رافقه من تفاصيل عن سير جلسة المحاكمة، لم يمرّ دون أن ينعكس صداه في المشهد السياسي التونسي. ومن بين الزوايا التي ردّدت الصدى، مجلس نواب الشعب، حيث ظهرت مواقف متفرقة لبعض النواب عبّرت عن قلق متزايد بشأن مسار الحريات واستقلال القضاء، في مقابل صمت لافت لبقية أعضائه والكتل الكبرى التي فضّلت الابتعاد عن الصورة في هذا الملف.
ليعلن عدد من النواب تضامنهم مع صواب أو على الأقل التعبير عن رفضهم لمبدأ سجن رجل قانون بسبب رأي أو نقد. من بين هؤلاء، النائب ياسين مامي الذي اعتبر أنّ أحمد صواب حوكم على حركة رمزية لا ترتقي إلى مرتبة التهديد، معتبراً أنّ ما رافق المحاكمة من إخلالات يطرح سؤالاً حول مدى توفّر شروط المحاكمة العادلة، وذلك في تدوينة له على منصة فايسبوك.
موقف مشابه عبّر عنه النائب فوزي الدعّاس الذي اعتبر أن الحركة الرمزية التي يُحاكَم عليها صواب «لم تكن تهديدًا، بل تنبيهًا إلى واقع الضغوط التي قد يتعرض لها القضاة في أداء مهامهم»، مشيراً إلى أنّ الحرية لا يمكن أن «تُعاقَب»، ولا يجب للعدالة أن تخاف من الرمز. ليعرب في نهاية تدوينته عن تضامنه مع المحامي.
وبالمثل، نشر النائب أحمد السعداني تدوينة حملت موقفاً مغايراً نسبياً، فالنائب اعتبر ما صدر عن صواب غير مقبول ولم يرفض الحكم، ولكنه اعتبر أنّ الاكتفاء بحكم سجني لا يتجاوز ستة أشهر على معنى الفصل 222 من المجلة الجزائية كان الأفضل، باعتبار أن الحكم والفصل يمكنهما أن يعكسا التوازن في تناول القضية. أي إنّ النائب يقتصر على اعتبار العقوبة «غير متناسبة» وأنّ الملف كان يمكن أن يُعالج بسبل أخرى تحول دون انعكاساته السياسية.
ورغم أنّ هذه المواقف تتباين فيما بينها كما أنها فردية ومحدودة العدد، فإنها تمثل استثناءً في ظل الصمت البرلماني، وتكشف عن مزيد من الاختلاف في تقييم المرحلة وضرورتها بين جزء من النواب الذين ينتسب اثنان منهم على الأقل إلى مسار السلطة ويدعمان سياساتها الجزائية وتصوراتها لإدارة البلاد والملفات. هنا، وإن كان الشرخ لا يزال في بدايته، وإن كان نائبين من أصل ثلاثة ممن نشروا مواقف علنية اتخذوا منذ فترة مسافة نقدية من السلطة والمسار، إلا أنّ التدوينات التي حملت موقفاً رافضاً للتتبع القضائي برمّته أو لحدّة الحكم فقط، تكشف أنّ الجدل انتقل إلى أروقة البرلمان وبات جزءاً من نقاشات النواب وإن لم يعلن جلّهم عن موقف أو يدلوا بتصريح.
فعدد غير قليل من النواب، سواء ممثلي أحزاب أو منتسبين لكتل برلمانية، سواء هم أو هياكلهم، لم يصدر عنهم إلى اليوم موقف أو بيان بشأن الحكم والمسار القضائي برمته. وهو صمت يحمل دلالات سياسية ويبدو أنه يعكس حالة من الحذر وربما الخوف من الاصطدام مع السلطة التنفيذية التي تتعاظم مكانتها في نظام الحكم الجديد.
قضية أحمد صواب، التي كان يمكن أن تظلّ نزاعاً قانونياً، تحوّلت اليوم إلى اختبار حقيقي للوظيفتين القضائية والتشريعية. فالرجل القادم من صلب المؤسسة القضائية نفسها قبل أن يكون محامياً، والذي عُرف عنه مواقفه المدافعة عن استقلال القضاء، تتم اليوم إدانته على خلفية رأي عبّر فيه عن مخاوفه من تعرض القضاء للضغط، ولكن صدر ضدّه حكم بالسجن والمراقبة الإدارية. وهذا من شأنه أن يوحي بأن البلاد بصدد الدخول في مرحلة جديدة تُستخدم فيها التشريعات كوسيلة لإعادة ضبط الحدود المسموح بها في النقاش القانوني والسياسي.
وهو ما يجعل من قضية صواب كاشفة عن حجم الارتباك الذي يعيشه الفضاء السياسي في تونس، الذي يعاد فيه اليوم طرح سؤال حول حدود حرية الرأي وحدود تقييم مدى استقلال القضاء. وهي أسئلة تُطرح في ظل تراجع البرلمان عن أدواره الأساسية في الدفاع عن الحقوق والحريات.
ويبدو أنّ الرسالة المراد توجيهها بهذا الحكم قد وصلت لكلّ من يفكّر في رفع صوته نقدًا أو تنبيهًا أو مساءلة في المشهد السياسي. فاليوم يبدو أنّ الكلمة مدانة، وذلك ما يثير المخاوف من مستقبل ستتراجع فيه المشاركة في الفضاء العام والتعاطي مع الملفات السياسية لصالح حسابات البقاء في المشهد دون تكلفة