فيها المصالح وتتصارع فيها القوى. هذا ما تخبرنا به التطورات في المشهد الدولي التي جعلت من العالم أكثر تعقيدًا في ظل توازن القوى هشّ، تكفي شرارة صغيرة لتقوضه وهدم تحالفات صممت لتدوم، عالم باتت فيه ساحات غير تقليدية، صراع على الطاقة والتكنولوجيا والمعادن الثمينة.
مساحات جديدة للصراع جعلت من الرقائق والمعادن والتطبيقات والطاقة والنظم المالية أكثر من مجرد بضاعة او خدمة في سوق مفتوح بل أداة نفوذ استراتيجية تُعيد رسم الخرائط وتعلن عن مراكز القوة. ومساحات للمناورات تكررت خلال الاشهر الاخيرة وتصاعد نسق تواترها، بعضها شديد الوضوح والبعض الاخر مبهم على غرار دعوة واشنطن لكل من الصين والهند إلى خفض مشترياتهما من النفط والغاز الروسي، التي وان كانت في ظاهرها خطوة تهدف الى احتواء موسكو وتقليص عائداتها المالية الموجهة للمجهود الحربي، فانها في جوهرها رسالة إلى بجين بان الهيمنة الأميركية لا تزال قائمة… أو هكذا تريد واشنطن ان تسوق.
فدعوة واشنطن الدول التي تشتري الطاقة الروسية — وفي مقدّمتها الصين والهند — إلى خفض مشترياتها من النفط والغاز، باعتبارها «تمويلًا غير مباشر» للحرب الروسية في أوكرانيا. ليست تفصيلا تقني اقتصادي بل تتجاوز ذلك البُعد إلى الجيواستراتيجي ايت يعاد رسم خرائط النفوذ، وتتشكل ملامح التوازنات الجديدة في عالمٍ غني بالتحوّلات.
هذه الدعوة أتت في سياق تتكثّف فيها الضغوط الأميركية على بجين، ليس فقط لثنيها عن شراء الطاقة الروسية، بل لاحتوائها في سياق الانضباط الغربي الذي تسعى واشنطن إلى ترميمه منذ اندلاع الحرب الأوكرانية. التي كشفت عجز الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية عن فرض رؤيته على دول العالم وخاصة دول الجنوب، التي أعلنت ان الحرب لا تعنيها ولن تصطف خلف الغرب بل خلف مصالحها.
مصالح يتجاهلها الخطاب الغربي فيغفل عن فهم منطلق تحركات دول مثل الصين التي لا تتحرّك من منطلق دعمٍ لروسيا، بل من منطق فرض توازن جديد في المشهد الدولي ضدّ الهيمنة الامريكية والغربية التي كشفت حدودها خلال السنوات الثلاثة الاخيرة، ومنحت فرصة للقوى الصاعدة لتدفع الى تشكّل نظام عالمي موازٍ لا يُدار بمنطق التحالفات الجامدة او الخضوع للقوى الغربية، بل تحكمه المصالح المرنة والمنافع المتقاطعة.
فهم هذا الوقع الجديد يسمح بادراك ان الدعوة الأميركية إلى تقييد استيراد الطاقة من موسكو ليست سوى فصلٍ جديد من معركة السيطرة على الموارد وسلاسل الإمداد، في عالم باتت فيه منتجات حيوية كالطاقة مرآة للسياسة أكثر من كونها سلعة اقتصادية. فما تخشاه واشنطن وشكفته محاولتها لفرض عقوبات اقتصادية على الدول المستورد للطاقة الروسية ليس استقرار عائدات موسكو، بل بروز محورٍ اقتصادي–طاقي يمتد من سيبيريا إلى بحر الصين الجنوبي، قاعدته تبادل الطاقة بالتكنولوجيا، واستعمال العملات المحلية بدل الدولار. فهذه المحور ان استكمل تركيزه بانهاء مشروع سيبريا 2 وارتفاع عدد الدول التي تنضم الى نظام التحويل المالي الصيني وتنامي عمليات التجارة بالعملات المحلية او اية عملة غير الدولار سيقوّض البنية المالية الامريكية التي حكمت العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتُضعف قدرة الولايات المتحدة على فرض عقوباتها العابرة للحدود وهذه أهم أدوات الهيمنة الامريكية.
هيمنة يهددها اليوم «البيترويوان» وتبنى البنوك المركزية لسياسات نقدية أكثر تحفظا تجاه الدولار الذي يفقد مكانه في السوق المالية والدولية كملاذ آمن لفائدة الذهب الذي تستمر البنوك المركزية في شرائه للشهر العاشر على التوالي بمعدل 1000 طن شهريا، اضف الى هذا ارتفاع حدة التنافس والصراع التكنولوجي بين أمريكا والصين خاصة في الذكاء الاصطناعي والبرمجيات المتعلقة به، وسعى كل من القوتين الى الهيمنة على منافذ التجارة الدولية والسيطرة على حركة الملاحة البحرية سواء بانتشار القوات او بالهيمنة على الموانئ.
تفاصيل هذا الصراع وتشعباته حبرت الاف التقارير والدراسات الصادرة عن مراكز استخباراتية مؤسسات الدفاع او معاهد متخصصة، لا يمكن الخوض في كل ثنياها ولكن يومكن القول انها تمنح لمن يستطيع أن يقرأ ما وراء الكلمات والأحداث فرصة. و تونس، مثل غيرها من دول الجنوب يمكنها ان تغتنم هذه الفرصة ان احسنت قراءة ما تمتلكه من مميزات كموقع جغرافي يجعلها حلقة وصل بين شمال المتوسط وجنوبه، بين أوروبا وأفريقيا، وبين الشرق والغرب في آنٍ واحد.
موقع يمكنها في زمن يُعاد فيه التفكير في سلاسل التوريد والطاقة، من ان تصبح منصّة استثمارية للطاقة المتجدّدة، أو مركزًا لعمليات العبور والترانزيت في البحر المتوسط. تونس اليوم أمام فرصة إمّا أن تكتفي بدور المتفرّج على لعبة الكبار، أو أن تقدم خطوة بمنطق واعي يبحث عن مصلحتها قبل كل شيء