في مناقشة مشروع ميزانية 2026، لتتضح مفارقة لافتة في مسار البناء الدستوري في تونس، ففي الميزانية الرابعة على التوالي منذ المصادقة على الدستور الجديد ودخوله حيّز التنفيذ، لم تُرصد ميزانية لعدد من المؤسسات الدستورية المركزية في النظام السياسي الجديد، مما يعني أنها لا تزال خارج نطاق التفعيل الكامل.
إذ إن مشروع الميزانية لم يتضمّن أيّ اعتمادات مالية مخصّصة للمحكمة الدستورية، رغم ما تمثّله من ركيزة أساسية في منظومة الحكم الجديدة. هذا الغياب لا يُقرأ فقط من زاوية تقنية تتعلّق بالتمويل، بل من زاوية تتعلّق بمدى تقدّم إرساء منظومة الحكم التي اقتصرت اليوم على استكمال بناء الوظيفتين التنفيذية والتشريعية ومؤسساتهما، دون المرور إلى المؤسسات التحكيمية، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن أسباب هذا التأخير، خاصة في تعيين أهم المؤسسات الرقابية الدستورية.
فالمحكمة الدستورية ليست مجرّد هيكل قانوني، ولا هي فقط عنصر توازن يضبط العلاقة بين السلطات ويؤمّن احترام مبدأ علوية الدستور، باعتبارها المؤسسة الدستورية الموكول لها النظر في دستورية القوانين الصادرة عن الغرفة التشريعية، بل هي أيضًا الجهة الحاكمة في تنازع الصلاحيات والاختصاصات بين السلط، كما أن رئيسها هو من أوكل له الدستور مهمة الإشراف المؤقت على رئاسة الدولة في حالات الشغور الدائم.
والأمر لا يختلف في علاقة بالمجلس الأعلى للقضاء الذي يواصل عمله في إطار مؤقّت. فقد أظهرت النقاشات صلب لجنة التشريع العام ليوم أمس الأربعاء، أثناء مناقشة ميزانية مهمة المجلس الأعلى للقضاء المؤقت، أنّ الانتقال إلى مجلس دائم ما يزال مؤجَّلاً، إذ رُصدت للمجلس ميزانية تقدّر بـ1.5 مليون دينار، وهذا مردّه انتظار استكمال الإطار القانوني والتنظيمي الذي يضبط تركيبته وصلاحياته، وأيضًا سدّ الشغورات في المجالس الثلاثة بتعيين القضاة المعنيين بعضوية تلك المجالس.
وهذا الوضع الاستثنائي، الذي يبدو أنه سيستمر للسنة الرابعة، رغم ما يتيحه من استمرارية في تسيير الشأن القضائي، يطرح في المقابل تساؤلات حول مدى قدرة الدولة على بلوغ مرحلة مؤسسات مستقرة ودائمة تضمن استقلالية القضاء عن السلطة الممثلة في وزارة العدل، التي بات بيدها اليوم، في ظلّ عدم توفّر النصاب القانوني لانعقاد جلسات المجالس الثلاثة، الإشراف على المسار المهني للقضاة.
لنكون أمام وضع استثنائي سبق أن مررنا بمثله في تجربة الانتقال الديمقراطي، التي وُجّه فيها إلى الفاعلين انتقادات حادّة على خلفية تأخرهم في استكمال البناء المؤسّساتي، والمقصود هنا المحكمة الدستورية. واليوم تُرفع الأصوات صلب مجلس نواب الشعب بانتقاد لتأخر السلطة في استكمال البناء المؤسّساتي الدستوري.
نقدٌ تواجهه السلطة بالصمت ولا تقدّم بشأنه أيّ خطاب يشرح أسباب هذا التأخير، وهو ما قد يفتح الباب لتأويلات عديدة تستند إلى المعطيات الراهنة التي توحي بأنّ السلطة غير مستعجلة في استكمال مسار البناء المؤسّساتي، نتيجة تشابك العوامل القانونية والسياسية. وهنا تُلقى المسؤولية على السلطة التي تدرك أن استكمال المؤسسات الدستورية لا يقتصر على احترام النصّ الدستوري فحسب، بل يمثّل ضرورة لضمان استقرار الدولة نفسها. فالمؤسسات هي التي تمنح للقانون معنى التطبيق، وللسياسة معنى المسؤولية. وكلّ تأخير في تفعيلها يُبقي النظام في حالة انتقال دائم، ويجعل القرارات الكبرى رهينة توازنات وعوامل ظرفية في المشهد، أكثر من كونها ثمرة عمل مؤسسات مستقلة وفاعلة.
وتونس اليوم أمام مسارين: إمّا أن تتقدّم نحو استكمال البناء الدستوري بما يوفّر الانسجام بين النصّ والمؤسسات، وإمّا أن تظلّ في حلقة انتقالية مفتوحة تؤجّل استقرار الحكم