ميزانية 2026 صورة إيجابية عن حسن إدارتها للمالية العمومية، وجعلت مركز الصورة قدرتها، وفق تقرير إنجاز ميزانية السنة الراهنة، على تسجيل فائض قدره 871 مليون دينار، والذي استُقبل من قبل أنصارها على أنه دليل على أن البلاد استعادت توازنها المالي بعد سنوات من العجز.
لكن هذه الصورة الإيجابية لا تصمد أمام ما يقدمه ذات التقرير من معطيات تتعلق بتقدّم إنجاز الميزانية، إذ تكشف الأرقام واقعاً مختلفاً تماماً. من بين ذلك مسألة الفائض المذكور، الذي يتضح وفق الأرقام أنه فائض وقتي في الحسابات، ناتج عن كون المداخيل المقبوضة فاقت مؤقتاً النفقات المصروفة خلال ثمانية أشهر من السنة، لكن السنة ستُغلق على عجز يناهز 10.7 مليارات دينار، أي ما يعادل 5.3 ٪ من الناتج الداخلي الإجمالي.
وهنا، إن دققنا النظر في تفاصيل المداخيل، ستظهر لنا الأرقام أن الحكومة نجحت في تعبئة 64.3 ٪ من الموارد الجبائية المبرمجة في قانون مالية 2025، أي أن الدولة قامت بتعبئة 29 مليار دينار من أصل المبلغ المتوقع تحصيله من الضرائب على كامل السنة. وبذات النسبة تقريباً، تمكنت الحكومة من تعبئة 52.6 ٪ من مواردها غير الجبائية المقدّرة بأكثر من 4 مليارات دينار، فيما مثّلت نسبة تعبئة موارد الاقتراض 49 ٪. لكن هذا يتغير في علاقة بعائدات الغاز الجزائري التي تراهن الحكومة على أن توفر لها 1.2 مليار دينار، غير أنه وإلى موفى شهر أوت الفارط، لم تنجح الدولة إلا في تعبئة 136 مليون دينار، أي نحو 11 ٪ من التوقعات.
هذه المعطيات تكشف كيف تمكنت الدولة التونسية من تعبئة مواردها، وتبيّن أن 92 ٪ من المداخيل المحققة في الأشهر الثمانية هي مداخيل جبائية، لكنها تواصل تعثرها في تعبئة موارد مالية أخرى، وهو ما يرسّخ الانطباع بأن الدولة التونسية تعتمد على الضغط الجبائي وعلى الاقتصاد المنظم لتعبئة مواردها المالية.
لكن هذا بمفرده لا يشرح كيف تحقق الفائض، إلا إذا نظرنا إلى تفاصيل نفقات الدولة التي قُدرت في موفى أوت الفارط بـ30.5 مليار دينار، والتي تكشف تفاصيلها عن صورة أكثر دلالة. أهمها نسبة إنجاز نفقات التأجير التي بلغت 63.4 ٪، ونفقات التمويل وخدمة الدين التي بلغت 60.8 ٪، وهو ما يعني أن الدولة حافظت على انتظام خلاص أجورها والتزمت بسداد ديونها. لكنها لتحقيق ذلك، ضغطت على بقية نفقاتها، من بينها النفقات الاجتماعية التي بلغت نسبة إنجازها 39.4 ٪، وأقل منها نفقات الدعم التي لم تتجاوز 36.6 ٪ كرقم إجمالي. وإن نظرنا في تفاصيله، سنقف على أن الدولة التونسية لم تصرف سوى 14.6 ٪ من اعتمادات دعم المواد الأساسية، و43.4 ٪ لدعم المحروقات، مقابل 88.4 ٪ لدعم النقل.
هذه الأرقام تكشف عن ملامح سياسة مالية صارمة في شكلها لكنها تفتقر إلى الرؤية، مما يجعل الدولة تسير وفق منطق حسابي تُقاس فيه نجاحاتها بمستوى صرفها لا بمدى تحقيقها لأهداف اجتماعية أو اقتصادية. وهي سياسة تقشف غير معلنة، تقوم على كبح الإنفاق في مجالات الدعم والاستثمار مقابل الحفاظ على انتظام سداد الديون.
سياسة لها مصطلح معروف في الاقتصاد السياسي، وهو “Fiscal Austerity with Administrative Control”، أي التقشف المالي تحت السيطرة الإدارية، وهو نمط يُطبَّق حين تلجأ الدولة لمواجهة أزمتها المالية إلى خيار تقليص النفقات والتحكم في الحسابات، فتتحول الإدارة المالية إلى غاية بحد ذاتها، ويصبح التوازن المحاسبي هدفاً أهم من التنمية أو العدالة الاجتماعية.
ويبدو أن تونس، كما تكشف بيانات التقرير، تسير في هذا الاتجاه. فالأولوية اليوم ليست لدفع النمو أو تحسين الخدمات، بل لضمان خلاص الديون والأجور وحصر النفقات. وهو ما يجعل الدولة التونسية تُدار بعقلية «أمين الخزينة». وهنا تبدو المفارقة واضحة: فالحكومة التي تسوّق لفائض وقتي تكشف أرقامها أن الميزانية ستُغلق بعجز ضخم، وحين تتحدث عن ترشيد الدعم والإنفاق، تُظهر أرقامها تراجعاً في النفقات الاجتماعية والاستثمارية. أما شعارها المركزي، وهو “الدولة الاجتماعية”، فلا يصمد أمام إدارتها المالية التي تتسم بالتقشف