مسرحية "هُمْ" اخراج اسماء الهوري اشدّ درجات التحرر: تخلي الانسان عن اسمه وجسده

ماذا لو يسمح لك باختيار اسمك؟ ماذا لو يسمح لك باختيار تركيبة جسدك ومميزاته؟

ماذا لو كان لك الحرية ان تنزع عنك كل الملابس وتختار ان تكون عاريا بكامل الحرية؟ ايّة حدود يفرضها وجود الاخر على الذات؟ وكيف للانا ان تتحرر من قيود الهم؟ وهل يمكن للانسان ان يتحوّل الى فكرة ترفض الخروج على الورق وتبقى محشورة في ذهن كاتبها؟ وهل الجسد واحد ام اجساد متعددة؟ هكذا تساءل عبد الله رزيقة في نص مسرحية "هم" اخراج اسماء الهوري.

المسرحية من تمثيل زينب علجي ومحمد شهير وهاجر الشركي وعبد الرحيم التميمي وسينوغرافيا امين بودريقة وتاليف موسيقي رشيد الرومي وبحضور العازفين عبد الله الروداني وأسامة بوراوين ورشيد الرومي ومحافظة تقنية لكرم عمراوي وإنتاج فرقة "انفاس" التي اسستها الفنانة اسماء الهوري الى جانب الفنان رشيد الرومي وعرفت الفرقة بأعمالها المسرحية التجريبية مثلت المسرحية المملكة المغربية في الدورة الاخيرة لمهرجان المسرح العربي بمسقط.

حاول ان تكون انت، ثر على الاخر لتكسبك ذاتك

تتصارع الاجساد البشرية، الموسيقى الصاخبة وكأنها شرارة الثورة والغليان تسيطر على فضاء اللعب، مناخ للثورة والعنف توضع فيه اجساد الممثلين وكذلك الجمهور، سيرورة للخوف والترقّب يعيشها المتفرج في انتظار ماذا سيحدث؟ لماذا تلك الاطياف تتحرك في المكان؟ الخوف سيكون التيمة الاولى التي اشتغل عليها الممثلين، اطياف تنعكس ظلالها لتبدو عملاقة تتصارع خلف جدار يفصل الركح النصفين، ترتفع الظلال قبل ان يفتح باب وتتغير وضعية الشخصيات وتصبح مباشرة امام المتفرج ويغلق الباب ويبقى فقط الضوء الاحمر مرافقا يرمز للتوتر والخوف الذي ستنقله الشخصيات طيلة العرض.
هم اربعة أجساد، تنتفض اولا ثم يبادرون الى نزع ما يزيد عن الثياب، ينفض الشخص نفسه وكأنه يتطهّر من ادران ما، يحاول التخلص من كل شيء ووضعها في سلة للقمامة ومتى اراد استرجاع شيء ما نهرته البقية، هم واحد متعدد، مجموعة وكأنها كتلة واحدة، اشخاص دون اسم او هوية، يحاولون الكلام فتنحبس الكلمات وترفض الخروج من الحنجرة، حتى الكلمات تتمرد على الفم والجسد وترفض المغادرة، ومن فكرة التخلّص من كل شيء انطلق نصّ المسرحية ليكون فعلا تجريبيا يضع انسانية الانسان على محكّ السؤال.
"ماذا ساقول؟ وهل لدي شيء لأقوله؟ كل ما اعرفه هو اليوم الذي قررت فيه ان انزع اسمي وابعده عن جسدي، كل ما اعرفه ان اردت محو اسمي، محو جسدي، هكذا تندفع الكلمات مرة واحدة من جميع الافواه فاربعتهم يتكلم في نفس الوقت وبالمنطوق ذاته، فتلك الاجساد متماسكة ومتنافرة، وجه واحد لصور متعددة، هي وجهك، ووجهي، ووجه الاخر قبالة الهُمْ؟ ومن هنا يطرح السؤال الرئيسي للعمل هل نختار أسماءنا؟ وتاتي الاجابة: طبعا لا، فلم نحاسب على ذلك؟ هل نحن من اختار أجسادنا؟ وهل الانا من اختار كينونته ام الهم؟ الهم او الاخر يساهم في صناعة الحدث المسرحي دون ان يكون موجودا، تماما كما يشكل الاخرون افكارنا وتوجهاتنا، فالمجتمع هو من يصنعنا، المجتمع الضيق والأكبر من يختار ملابسنا، طريقة حركتنا وحتّى منطوقنا اللفظي المختلف من بيئة الى اخرى، فايّ حرية للفرد في منظومته المجتمعية؟ وما مدى قدرة الذات على التمرد على نواميس فرضت عليه اولها اسمه وجسده؟.
المسرح شكل كلي للحرية، في تلك الدائرة المربعة تدور الشخصيات وتتصارع، تتناحر لإثبات اناها والتمرد على واقعها، تبحث كل شخصية عن ملامحها الغائبة تحاول الاصغاء الى صوتها الداخلي علّها تجد منفذا للخروج من بؤرة الخوف او التردد تلك، تجتمع حينا وتتفرق احيانا وكأنها كتلة من الافكار المتصارعة، الشخصيات التي اختارت ان تكون دون اسماء ونزعت عنها ماضيها وحاضرها تشبه افكار تهرب من ذهن كاتبها، يحاول تجميعها على الورق فترفض وتضل متشتتة في جمجمته، تتعبه وتزيده الما ورغم رغبة القلم في الكتابة تظلّ الكلمات ترفض الخروج"لا اعرف كيف حصل،وجدت نفسي هكذا، نزعت ثيابي فتحت الباب، اردت ان اخرج عاريا، اردت ان ارمي كل شيء كما ترى في القمامة، احسست ان كل الناس ضدي وان كل الكلمات نفسها تهرب مني واني اصبحت فارغا" كما تقول الشخصيات، وجع يتماهى مع وجع رفض الجنين الخروج من رحم امّه، في هذه الدائرة تتحرك الشخصيات وتجبر جمهورها ليكون جزء من لعبة اساسها الخوف والانتظار والسؤال.
بين الاضاءة والموسيقى تنحت معالم الذات المتمردة

وتماهى الممثلين مع الاسئلة المطروحة عبر لغة الجسد، فأجسادهم تصنع الفوضى على الخشبة وحركاتهم الدائرية المتشتتة تنسجم مع النص المنطوق الذي سيقال في مراحل متقدمة من العمل، وتلك الاضاءة الحمراء المزعجة في انعكاسها على الجسد الممثل تسكنه بهالة من الرهبة والوجع، فجسد الممثل حمّال رسائل، مطية للتجريب استعملته المخرجة لتحمّله بافكار مختلفة، حمّلته معاني الثورة على الموجود والانطلاق الى اقصى معاني الرفض وأولها رفض الاسم والهوية فتركت شخصياتها في المسرحية دون اسماء ولا حاضر او ماضي، نزعت عنهم ما يعبّر عن كينونتهم مع فكرة البحث عن ذوات متجددة.
"هم" اسم المسرحية، ضمير الغائب سيكون حاضرا بقوة في صناعة الحدث المسرحي، فالمعني بالقصة الاخر وليس الانا او النحن، في دائرة الصراع بين الغائب والحاضر والصراع بين الموجود والمنشود ستبدع اجساد الممثلين في اللعب، "الهُمْ" هنا مطلق وليس محدد، الهُمْ نكرة دون لام التعريف ويمكن للمتفرج نعت من يشاء بالهُمْ، قد تكون العائلة اول المتهمين لأنها اول من اختار اسم الطفل، ربما هي المجموعة المضيقة لأنها اول من ساهم في تشكّل افكار الانا ونحت طريقة تعبيرها، هي المجتمع بنواميسه وأعرافه الذي يجبر الجسد على الالتزام بهندام او افكار محددة، هي المنظومة او السلطة بمفهومها السياسي التي تضع افكار الانسان في سيرورة محددة وتحاول توجيهه نحو منظورها الخاص، فالهُمْ هنا متعدد وليست محددة، مفتوحة على كل تأويلات مختلفة قد تكون ذوات بشرية وأخرى محسوسة غير ملموسة لكن في دائرتها يتيه الانسان بكل كيانه وافكاره واحلامه وتصبح ذاته شيء لم يختره مطلقا.
"هم" عمل جديد مثّل المغرب في الدورة الاخيرة لمهرجان المسرح العربي قدمته مخرجة مبدعة هي اسماء الهوري المعروفة بنزعة التجريب في كل أعمالها في المسرحية تعزف الموسيقى حية مباشرة وتنسجم الايقاعات مع حركات جسد الممثل وتكون مترجما لمنطوقه الهارب منه، عازفي عود وعازف التشيلو خلف الستارة يرافقان حركة الممثل وتكون النوتة صوت الممثل في الكثير من المشاهد الصامتة، فالموسيقى لغة اخرى تعزز النص المنطوق في المسرحية، الموسيقى صوت للروح ولترددات الافكار المكتومة استعملتها المخرجة لتعزز فعل التجريب في عملها الابداعي الجديد.
كذلك تساهم الاضاءة في نحت الملامح العامة للشخصيات وتوجه الجمهور لفهم القصة، الاضاءة في البداية خافتة مع التركيز المطلق على الاحمر خلف الباب المغلق، تلك الاضاءة الحمراء تدفع الشخصيات لمحاولة فتح الباب وايصال احساس القلق للمتفرّج، فالاضاءة ستكشف دواخل الشخصيات ومخاوفهم وتتغير في المشهد الاخير حين ينفتح الباب وتشعّ الاضاءة كامل الركح محيلة الى فعل الانفجار ثم الصمت الرهيب، وبحرفية عالية وظفت اسماء الهوري تقنيات السينوغرافيا لتلعب بمشاعر الجمهور وتجبرهم على التماهي مع الشخصيات وطرح السؤال عن علاقة الانا بالاخرين؟ هل يمكن للانا ان ينتفض على الاخر ويحيا دونه؟ هل يمكن لذاتي ان تقعد مع ذاتي؟ هل ذاتي فوق ذاتي وكيف اكون ذاتي؟ وكيف اخرج من هذا العالم كلّه؟ كما تتساءل الاجساد المنتفضة طيلة ساعة من اللعب على الخشبة.

 

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115