بل الأخطر من ذلك أنها رسمت خريطة جديدة لسوريا دون أدنى مقاومة مستغلة حالة الفراغ السياسي والفوضى العسكرية في البلد الذي كان حتى الأمس القريب يمتلك إحدى أهم الترسانات العسكرية في المنطقة . كل شيء دمر ومسح في ساعات حيث هاجمت تل أبيب أكثر من 250 هدفا داخل الأراضي السورية ، شملت قواعد عسكرية وطائرات مقاتلة وأنظمة صواريخ. في حين قال الممثل الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسن إن احتلال إسرائيل للمنطقة العازلة في مرتفعات الجولان بعد سقوط نظام البعث في سوريا يعد انتهاكا لاتفاق فصل القوات الموقّع بين إسرائيل وسوريا عام 1974. وامام التطورات المتسارعة والمشهد السوري الجديد يطرح تساؤل حول الدور التركي الواسع فيما يحصل وفي دعم تقدم الجماعات المسلحة انطلاقا من حلب وحماه وصولا الى العاصمة دمشق .
وفي خضم الضبابية التي تطغى على المشهد السوري اليوم ، يبدو ان الواضح والأكيد ان أردوغان هو صاحب النفوذ الأوسع اليوم في هذا المشهد . وصرح امس بانه لن يسمح بتقسيم سوريا مجددا ، وإن تركيا ستتحرك ضد أي شخص يسعى للمساس بأراضيها.
وقال "من الآن فصاعدا لا يمكن أن نسمح بتقسيم سوريا مجددا... سنقف في وجه أي اعتداء على حرية الشعب السوري وسلامة أراضيه واستقرار السلطة الجديدة". فتركيا كانت الراعي الأهم للحكم الجديد في سوريا عسكريا وتسليحيا وسياسيا .
أي دور تلعبه تركيا ؟
تختلف القراءات للدور الذي لعبته وتلعبه تركيا في سوريا منذ اندلاع الحرب السورية عام 2011 . إذ يُعدّ الصراع التركي الكردي صراعا قديما تتجلى إحدى أوجهه على الميدان السوري بين قوات تركيا المتمركزة هناك وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية . وساهم تقدم هذه القوات المدعومة من واشنطن في سوريا في زيادة وتيرة المواجهة المباشرة بينها وبين أنقرة، خاصة وأنها تتكون من أغلبية كردية تعتبرها الحكومة التركية خطرا حقيقيا يقضّ مضجعها خشية تحول الاقتتال في الشمال السوري إلى شرقها أين يُنادي حزب العمال الكردستاني منذ عقود طويلة بالاستقلال عن الدولة التركية وإقامة دولة مستقلة .
وفيما يتعلق بالتطورات الدراماتيكية التي تعيشها سوريا اليوم ، تضاربت الروايات بشأن الدور التركي في عملية ما سمّي "ردع العدوان" التي أطلقتها الفصائل المسلحة يوم 27 نوفمبر الماضي والتي أحكمت بموجبها قبضتها بالكامل على محافظات إدلب وحلب وحماة وصولا إلى ريف حمص ثم دمشق .ومع سقوط نظام بشار الأسد قبل أيام عاد الحديث عن الدور والتأثير التركي على المتغيرات المتسارعة التي تشهدها دمشق .
وعلى امتداد سنوات ومنذ عام 2016 شنّت أنقرة عمليات عسكرية متعددة في الشمال السوري منها البري والجوي من بينها ''درع الفرات'' و''نبع السلام'' وغيرها من العمليات العسكرية المتتالية ، بالإضافة إلى دخولها في مسار آليات خفض التصعيد وآليات البحث عن حل سياسي للأزمة السورية ومنها مسار ''أستانة'' مع الجانبين الإيراني والروسي .وبالتوازي مع سقوط الأسد نقلت تقارير إعلامية أنّ الفصائل السورية المسلحة أبلغت تركيا قبل 6 أشهر بخططها لشن هجوم كبير على مدن سوريا تابعة للنظام السابق.وأشار التقارير إلى أن تلك الفصائل شعرت بالحصول على موافقة ضمنية من تركيا لشن الهجوم.بدوره، قال مسؤول أمريكي وفق وكالة ''رويترز'' إن واشنطن لم تكن على علم بأن تركيا "وافقت ضمنيا" على خطط الفصائل السورية المسلحة لمهاجمة حلب في شمال سوريا.
ويمثل سقوط نظام بشار الأسد في سوريا تحولا كبيرا قد يعزز النفوذ التركي الإقليمي، بالنظر إلى الأدوار المتعددة التي لعبتها تركيا في سوريا طوال السنوات الماضية. على الصعيد السياسي، شاركت أنقرة في مسار أستانة منذ عام 2017، إلى جانب إيران وروسيا، كداعم رئيسي لمفاوضات التسوية. عسكريا، دعمت تركيا العديد من فصائل المعارضة، وعلى رأسها "الجيش الوطني"، كما استضافت ما يقارب ثلاثة ملايين لاجئ سوري. ومع ذلك، فإنّ المشهد الجديد الذي قد ينشأ بعد سقوط الأسد قد يضع تركيا أمام تحديات كبيرة ومسؤوليات مهمة في تحديد دورها في المرحلة المقبلة.
الموقف التركي
في البداية، كان موقف تركيا من العملية العسكرية التي انطلقت في 27 نوفمبر غير واضح. لكن مع تقدم الفصائل الميداني، وخاصة بعد سيطرتها على محافظة حلب بالكامل وعلى بقية مناطق إدلب، بدأ الموقف التركي يتغير تدريجيا. ففي تلك الفترة، حاولت تركيا ربط العمليات العسكرية بمناطق خفض التصعيد، قبل أن تؤكد في الاتصالات والمفاوضات التي سبقت سقوط الأسد على أهمية خفض التصعيد والدعوة إلى الحوار مع المعارضة.
قبل ساعات من سقوط الأسد، كان الموقف التركي قد تمحور حول التأكيد على عدم قبول أي عرض للتفاوض من قبل النظام، مشددة على أن ''المرحلة المقبلة يجب أن تكون أكثر هدوءا وتنظيما''. وقد أثار تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل شهر حول تأمين حدود تركيا الجنوبية، تساؤلات كبيرة حول الخطط التي كانت تركيا تعدها لمواجهة التطورات المرتقبة.
هذه التغيرات تشير إلى أن تركيا كانت تستعد لتحولات هامة في سوريا وأنها قد كانت تعمل على اتخاذ خطوات جديدة، سواء على الصعيد العسكري أو السياسي، بما يضمن استمرارية مصالحها في المنطقة ويعزز مكانتها الإقليمية.
منذ بداية الحملة العسكرية التي أدت إلى سقوط نظام الأسد، تزايدت التكهنات والقراءات حول وجود تنسيق ضمن إستراتيجية تركية لحسم الموقف. استندت هذه الإستراتيجية وفق محللين إلى انتظار انعقاد اجتماع الدول الضامنة ''استانة'' قبل اتخاذ مواقف حاسمة بشأن الانتقال السياسي في سوريا. خلال هذه الفترة، ووسط الحديث عن الحوار بين النظام والمعارضة، تمكنت الفصائل المسلحة المعارضة من تحقيق تقدم ميداني ملموس، قلب مجريات الوضع لصالحها.
في هذا السياق، أفادت مصادر دبلوماسية تركية بأن جهاز الاستخبارات التركي كان قد نسق مع فصائل المعارضة المسلحة طوال الفترة الماضية، مع عدم تدخل الجيش التركي بشكل مباشر في العمليات العسكرية. وبحسب المصادر، لم يكن هناك استخدام كبير للمدفعية أو الطيران المسيّر التركي، بل كان التنسيق يتم من خلال الاستخبارات. ما فاجأ الجميع هو السرعة التي انهارت بها قوات النظام السوري، وتراجعها السريع في ظل هذه التطورات، وهو ما أدى إلى الوصول إلى المرحلة الحالية من النزاع. كما أكدت المصادر أن تركيا كانت في حالة تنسيق مستمر مع الدول المعنية بالأزمة السورية لمواكبة المستجدات على الأرض.
تشترك تركيا مع سوريا في حدود تمتد لنحو 913 كيلومترا، وهي أطول حدود لها مع أي دولة، وكانت من أكثر الدول تأثرا بالتطورات التي شهدتها سوريا خلال سنوات الحرب منذ 2011 . هذه الحدود الطويلة تجعل من تركيا لاعبا رئيسيا في النزاع الدموي الذي عاشته دمشق وأيضا ستكون لاعبا في أي حل مستقبلي للأزمة السورية وفق قراءات محللين .
لم تكن عودة التصعيد العسكري في سوريا مفاجئة لتركيا، حيث كانت مؤشرات الأحداث تشير إلى هذا التحول منذ عدة أشهر وفق تقارير وتصريحات تركية. ففي ظل تصاعد الحديث في الأوساط السياسية التركية، أكد الرئيس رجب طيب أردوغان وزعيم التحالف القومي اليميني دولت بهجلي، على مدار الشهرين الماضيين، ضرورة مراقبة التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، مع التركيز على العواقب التي قد تترتب على تركيا جراء هذه التحولات، خاصة فيما يتعلق بالأكراد في سوريا.
ومنذ اندلاع الحرب السورية، مثّل سعي الأكراد لإنشاء إدارة ذاتية في منطقة "روج آفا" شمال شرق سوريا، عنصرا مثيرا للقلق في أنقرة بسبب المخاوف من تعزيز نفوذهم هناك. إذ تراقب تركيا باهتمام شديد تطورات الوضع في الشرق الأوسط، خاصة مع تراجع حلفاء الأسد الرئيسيين في ظل مايعانيه حزب الله وإيران من ضغوط كبيرة جراء الهجمات الإسرائيلية المستمرة وحرب الإبادة في غزة، في حين تركز روسيا بشكل متزايد على الحرب في أوكرانيا.
في الوقت ذاته، تسعى الولايات المتحدة إلى إعادة ترتيب تمركز قواتها في المنطقة، وهو أمر يظل غامضا في ظل غموض الموقف الأمريكي عقب الانتخابات الرئاسية ، خاصة مع عودة دونالد ترامب القريبة إلى البيت الأبيض في جانفي المقبل.
في ظلّ هذه المتغيرات، استغلت فصائل المعارضة السورية هذه الفرصة، وفي 27 نوفمبر ، شنت هجوما واسعا ضد القوات الحكومية السورية، وأحرزت تقدماً سريعا. خلال أيام قليلة، تمكنت الفصائل من السيطرة على حلب، ثاني أكبر مدينة سوريا. وواصلت هذه الفصائل تقدمها نحو المدن المجاورة، تحت قيادة "هيئة تحرير الشام" (المعروفة سابقا بجبهة النصرة)، وهي المجموعة التي كانت فرعا لتنظيم القاعدة قبل أن تنفصل عنه. هذه الهيئة مدرجة على قائمة الإرهاب الأمريكية منذ عام 2018، ما يعقد الصورة أكثر بالنسبة للمجتمع الدولي وتركيا على حد سواء.ويرى مراقبون أنّ هذه التطورات تؤكد على تعقيد الوضع في سورية وتبرز تحديات جديدة أمام تركيا في ظل التغيرات الجيوسياسية والإقليمية المتسارعة.