طرابلس اللبنانية جوهرة أثرية على المتوسط ...عاصمة للثقافة العربية لعام 2024

من عمق الحضارات المتوسطية ومن شجن البحار وحكاياه ،

تخرج طرابلس جوهرة أثرية وتاريخية على المتوسط في عرسها الثقافي كعاصمة للثقافة العربية لعام 2014 تحاول أن تمحو بعضا من غبار الزمن العتيق .

لم يكن اختيار المدينة كعاصمة للثقافة صدفة، اذ يعود تاريخها إلى 3500 عام، حيث أسسها الكنعانيون، وتعاقبت عليها الحضارات المتعددة مرورًا بالرومان، والبيزنطيين، والعرب، والصليبيين والمماليك، والعثمانيين وصولا للانتداب الفرنسي .
أيتها الفيحاء ...الساكنة في القلوب ...أيتها الشجية الحالمة الساكنة الدافئة المتألمة ، افتحي ذراعيك لاستقبال عشاقك وزوارك . قلعتك الشامخة ورائحة برتقالك المنعش كروحك الصافية ،تحكي كل الأسرار وتعزف على أوتار القلب ...
يا حكاية الذكريات ورائحة الفجر وتراتيل المساء وأغاني الورد وقلب الفصول وساحة التل عند السابعة صباحا وهدير "البوسطة" المحمّلة بأشجان وأحلام من يعبرون هناك عبر الآفاق الى العاصمة الأولى بيروت .
في قاعة المؤتمرات في معرض رشيد كرامي الدولي -الذي تم إدراجه في قائمة التراث العالمي المُعرّض للخطر-، تم الإعلان عن عاصمة الشمال اللبناني طرابلس كعاصمة للثقافة العربية لعام 2024 . وهو حدث جدير بأن يعيد الأهمية لعاصمة ثانية للبنان عانت طويلا -كما باقي المدن في لبنان- من الأزمات ودفعت ثمن الحروب الأهلية والمحاصصات الطائفية في نظام سياسي شديد التعقيد والحساسية وفي بقعة جيوسياسية استثنائية .
لبنان لا يرفرف الا بجناحيه بشماله وجنوبه بشرقه وغربه، وفي الوقت الذي يخوض فيه الجنوب اللبناني معركة الكرامة دفاعا عن شرف وكرامة الأمة الضائعة ودفاعا عن الأرض والتراب والوطن الغالي في وجه العدوان الصهيوني الجائر، تزهر طرابلس كقلعة للثقافة العربية ..فبالثقافة أيضا وبالحياة نقاتل وندافع عن الأوطان، ونعيد تذكير العابرين بان الأوطان تبقى رغم الاحتلال ورغم الأزمات والمآسي.
طرابلس هي حكاية مدينة تجمع أهم المعالم الاثرية في المنطقة ، ولعل قلعتها الشهيرة " "سان جيل" كانت شاهدة على أشرس المعارك .
طرابلس الحلم العابر للأوطان وحكاية كل الحضارات التي مرّت في المنطقة . وتحت عنوان "طرابلس حكاية الانسان والزمان" تم الاعلان رسميا عن الحدث بحضور وزير الثقافة اللبناني محمد وسام المرتضى بعد ان تم اختيار المدينة من قبل الالكسو . وطرابلس كعادتها كانت وفية لفلسطين وقد وقّع الوزير المرتضى مع سفير دولة فلسطين ممثلاً وزير الثقافة الفلسطيني اتفاق توأمة بين طرابلس والقدس عاصمتين للثقافة العربية.
ووفق كلمة رئيس الحكومة اللبناني المؤقت نجيب ميقاتي فإن طرابلس مدينة ليس كمثلِها أخرى، هي المسجدُ والكنيسة، والمدرسةُ والتَكية، والمكتبةُ والجامعة، والمستشفى ، والخانات والحِرَف، والقلعة والمعرض، والنهرُ والبحر، والجزرُ والهضاب، والأزقةُ والشوارع، والحارات المملوكية والأحياءُ الحديثة، وهي أيضًا المدينة وكل جِوارِها، من أعلى الثلجِ إلى أدنى الملح، ومن أَبْعَدِ الشواطئ إلى أقربِ المرافئ. لكن أهم ما فيها نسيجُها البشري الذي تتداخلُ فيه كل عناصر الوحدةِ الوطنية. فهي مدينةٌ تجذبُ إليها أهلَها وجوارَها والأبْعَدِين، وتصهرُهم في العيش الواحد، ليحققوا منها وفيها معنى لبنان الرسالة".
وزير الثقافة قال أن إعلان طرابلس عاصمة للثقافة العربية لعام 2024، حدث في تاريخ المدينة، ولا أبهى يُزَفُّ إليها وهي ولبنان والمنطقة في الظروف القاسية»، واعتبر أنه «ينبغي لهذه المناسبة أن تكون فرصة تستعيد فيها طرابلس كامل موقعها على خريطة التنمية المستدامة، نظرًا لما تحتويه من مرافق اقتصادية ومقدرات ثقافية، ومن إمكانيات بشرية ذات كفاءات عالية في جميع الميادين»، قائلاً «طرابلس التي احتضنت العروبةَ ولبنان والإنسان، علينا اليوم أن نحتضنَها نحن، لتعلن عن حقيقتِها المضيئة».
متحف حي
طرابلس الشام او الشرق هي متحف أثري حي، فأينما يتجول الزائر تقع عيناه على الآثار بكل ما تحمله من حكايا العابرين والقدامى والآباء والأجداد . فهي صلة الوصل بين الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والعمق السوري والعربي.
من مرفأ الميناء بإمكان الزائر أن يرى لوحة ربانية استثنائية تلوح من بعيد من خلال سفوح جبال الأرز الناصعة ببياضها كحلم لبناني عتيق . وتضم المدينة أكثر من 160 معلمًا، بين قلعة، وجامع، ومدرسة، وخان، وحمام، وسوق، وسبيل مياه، تحكي عن كرم المدينة وأهلها عبر العصور والذين حرصوا على إقامة الخانات لاستقبال الزائرين والعابرين والضيوف ....ويمر بها نهر أبو علي المتدفق من وادي قاديشا المقدس ويفصل بين ربوتي ابي سمراء وقبة النصر ... تنقسم المدينة إلى قسمين القسم الأول هو الميناء والقسم الثاني هو المدينة نفسها إضافة إلى ضاحيتيها، البحصاص والبداوي.
ووفق المصادر التاريخية فإن طرابلس هي تعريب لكلمة Tripolis اليونانية والتي تعني المدن الثلاث. ويعود الاسم حيث أسس على أرضها أول اتحاد من نوعه في عالم ذلك الزمان، لثلاث من مدن فينيقيا القديمة: صور وصيدا وارواد، نشأت عنه مدينة فينيقية بثلاثة أحياء عمرانية وهي «محلاتا» و«مايزا» و«كايزا». شكلت تلك المدينة فيما بعد بأحيائها العمرانية الثلاثة النواة الأساسية التي قامت عليها طرابلس اليوم.
كما عرفت المدينة بأسماء مختلفة عبر العصور. ففي رسائل تل العمارنة سميت «دربلي». وفي أثار أخرى سميت «أهلية» أو وهلية. وبمنحوتات انتصارات الغزو الاشوري للمدينة، سيمت «مهالاتا»، «مهلاتا»، «مايزا» و"كايزا.
بين القرنين السادس والرابع ق. م. ارتقى شأن طرابلس بين المدن الفينيقية حيث أصبحت عاصمة للاتحاد الفينيقي . وهذا ما كشفت عنه قطع النقود المسكوكة فيها بتاريخ 189 -188 ق. م. والتي صكت في العصر اليوناني ولكنها تحمل كتابة فينيقية تدل على اسم طرابلس الفينيقي.
دخلها اليونانيون في القرن الرابع قبل الميلاد، وأطلقوا عليها اسم تريبليس اي المدينة المثلثة. وقد ظلت تحمل هذا الاسم طوال العصور التاريخية التي تتالت عليها من الرومان حتى العرب الذين دخلوا عليها في القرن السابع الميلادي فعربوا الاسم إلى أطرابلس بإضافة الهمزة في أولها تمييزا لها عن طرابلس الغرب، ومن ثم حذفت الهمزة وأصبحت طرابلس. ولقد سميت طرابلس ومنطقتها إمارة طرابلس ثم دولة طرابلس ثم مملكة طرابلس المشرقية.
مدينة البرتقال
في مقاله على طريق الحج إلى القدس ... يوم في طرابلس الشام ربيع "
1900" يسرد الصحفي والكاتب اللبناني عماد الدين رائف قصة طرابلس التي بهرت الحجاج والرحالة...تحدث خلالها عن زيارة الكاتب الروسي إيفان بافلوفيتش يوفاشيف الذي تنشق رائحة زهر البرتقال الآتية من شاطئ الميناء وهو في السفينة على مقربة من الشاطئ الطرابلسي.
جاءت مذكراته عن المشرق في كتاب "الحج إلى القبر المقدس في فلسطين: مقالات عن رحلة إلى القسطنطينية وآسيا الصغرى وسوريا وفلسطين ومصر واليونان". وقال في كتابه :" حلمي الذي طال أمده، يتحقق إنني أقترب من سوريا، وجبال لبنان، والأرض المقدسة... وفي المساء، علمتُ أن السفينة ستقترب من طرابلس في الصباح، ولذلك سارعت إلى النوم مبكراً لكي أستيقظ فجراً وأستقبل الأرض التي طالما رغبت في الوصول إليها. لكن، إما بسبب ضيق المقصورة، أو للإثارة العاطفية، لم أستطع النوم، وصعدت إلى سطح السفينة في الساعة الرابعة فجراً. كان الظلام لا يزال مخيماً. إلى الشرق، مباشرة أمام قوس الباخرة، كان القمر الساطع يرسل شريطاً ضوئياً إلى الشاطئ بالكاد تُمْكن ملاحظته. كان قوس فضيّ رقيق جميل يحد الدائرة المظلمة المرئية أمامنا. وكان الحجاج في أماكن مختلفة على السطح ينامون بسلام في مجموعات كثيفة. هبّ نسيم خفيف مباشرة من الشاطئ. ولكن من أين تأتي هذه الرائحة اللطيفة؟ ربما - ظننتُ - أن أحد الحجاج اشترى زيت الورد في أزمير وسكبه عن طريق الخطأ على سطح السفينة... سرت على السطح وأنا أنظر نحو الشاطئ. في الأفق المبيضّ، بدأ القمر يتحول تدريجياً إلى الشحوب. لكن الرائحة صارت تنتشر في الهواء أكثر فأكثر. تشبه رائحة زهر البرتقال. ثم خطرت ببالي فكرة، إنها رائحة رائعة آتية من الشاطئ".
واليوم بعد كل هذه العقود لا تزال رائحة زهر البرتقال التي سميت طرابلس "الفيحاء" بسببها ، تحمل روح طرابلس الى العالم كله. ورغم بعد المسافات ، يكفي أن تتسلل رائحة زهر البرتقال من أحد البساتين او الشوارع أو الحدائق ، لتحلق الروح بعيدا نحو طرابلس الشرق ...مدينة التاريخ والانسان، مدينة الماضي والحاضر بشعبها الطيب الذي يأمل بأن تصبح طرابلس كذلك مدينة المستقبل الزاهر والمضيء والواعد...لأنها تستحق الأفضل وتستحق التثمين فهي حارسة التاريخ .

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115