وتفكيك المنظومات الثقافية والسياسية والاقتصادية بجراة الفنانين ولعب الشغوفين بالتجديد والتغيير والمسرح مطية لفهم بعض المنظومات المجتمعية واعادة قراءتها وهو ما فعلته ريحانة عباس في مسرحية "اعترافات".
العمل مقتبس عن نص "جرائم زوجية صغيرة" سيناغرفيا واخراج ريحانة عباس وتمثيل محمد بوزيد وعفاف رابحين موسيقى سيف الدين عجيلي واضاءة توفيق مرايدي وتوثيق سمعي بصري لؤي بن حميدة انتاج شركة نيسوسآر للإنتاج والتوزيع المسرحي.
السينوغرفيا بوابة جمال والية لقراءة العمل
المسرح فضاء لاعادة بناء افكار متجددة والانصات للهامش ولأوجاع الروح واحيائها في شخصيات يقدمها ممثلين اختاروا التمثيل مهنة وزاد للحياة والابداع، على الركح ممثلين اثنين، رجل وامراة، ادام وحواء كما خلقا منذ الازل يتصارعان، يتحبان، يعيشان حلقات مفرغة مسكونة وجع واخرى حكايات ملئها العشق والحب، يفككان علاقة الزوج والزوجة، يعيدان سير السابقين واللاحقين بلعب وأداء درامي ينتصر لفكرة الحرية والاختلاف.
ادم وحواء منذ نزلا الارض وانطلق صراعهما يجسده الممثلين محمد بوزيد وعفاف رابحي في مسرحية "اعترافات" المقتبسة عن نص جرائم زوجية للكاتب الفرنسي أريك ايمانويل شميت.
الديكور يمنح المتفرج مساحة من الحميمية لمعرفة فضاء الاحداث وسيرورتها، مكتبة مليئة بكتب غير مرتبة، مكتب متكدسة فوقه الكتب والمراجع وبنك صغير تجلس عليه المراة المتوترة والسريعة الحركة ولوحتين تجريديتين معلقتين على الحائط.
المكتبة فضاء يحمل العديد من الرمزيات وستكون وسيلة الجمهور ليقرئ الشخصيات، فالمكتبة تحيل الى المعرفة والاطلاع ورغبة الشخصية في التهام الكتب ومع اتضاح معالم الشخصيات والحوار نفهم انّ الرجل روائي شهير واغلب كتب المكتبة من إبداعاته، روائي ناجح في رصيده العديد من الكتابات يعيش في مكتبته وينام على البنك المزعج لان "عدم الراحة يولد ابداع" وهي احدى نظرياته الكثيرة، اما المراة فاسمها مريم زوجة ادام وستكون ذاكرته الى حين اتضاح الصورة في عقله وعودة ذاكرته للعمل، "مريم" ليست الحلقة الاضعف بل محركة الاحداث وصانعة بداية الحكاية ونهايتها.
ادم ومريم زوجين منذ 11عام، يعيشان كل التناقضات، من الحب الى الكره، يبحران في عوالم السعادة ويسبحان في شاطئ الظمأ، من المناقضات تولد اللعبة الدرامية ومن اللونين الابيض (قميص ادم) والأسود (فستان مريم) تبدأ سيرة صراع الانثى والذكر خاصة الزوجين بين الوفاء والخيانة، وبين منطوق وحركات جسدية يكون التعبير عن وضعيات نفسية عديدة عاشتها الشخصيات، فيشركان الجمهور في لحظات التوتر والفرحة ويدفعان بالمتلقي ليكون جزء من اللعبة المسرحية حدّ التضامن مع ادم او مريم.
تصنع الاضاءة جمالية مميزة على سينوغرافيا العرض تساعد في استنطاق بواطن الشخصيات والكشف عن الزيف الذي تحاول مريم تخبئته على آدم، كما تكون الاضاءة وسيلة لتقسيم المشاهد وإبراز مدى هشاشة العلاقة بين الزوجين، الحبيبين ظاهريا والمتصارعين باطنيا، الاضاءة في تدرجها ستتدرج معها اعترافات الشخصيات وبوحها بالحقائق، والاضاءة حين تصبح بيضاء ناصعة وترتكز على وجه الممثل نقرئ عبرها ما تحاول الشخصية انكاره عن شريكتها فلملامح الوجه نصيبها هي الاخرى من لعبة درامية اتقنها الممثلين جيدا.
"اعترافات" هو عنوان المسرحية، مفردة تعني البوح بالحقيقة، فالعمل طيلة ساعة وأكثر ستكون الشخصيات في حالة اعتراف، كل منهم سيعترف للاخر بوجعه، خوفه وحقيقيته، ساعة من البوح ورغبة كل شخصية في اكتشاف الاخرى، فادم فاقد الذاكرة بسبب حادث سيحاول معرفة ذاته من خلال الصور التي ستقدمها له زوجته، ستجعله الرجل المثالي المحب ولزوجته والمخلص لها والمشجع لنجاحها، صور مركبة وحدها مريم تحلم بها في شريك القلب والغرفة والحياة، لكن مع كل اعتراف يكتشف ادام كذب الزوجة الى حين سقوط اخر اعتراف في شجرة الاوراق تلك، فالاعتراف في العمل وسيلة للتصعيد تمارسه الشخصيات لتنفّس عن الروح وتنقص عن العقل جموح افكاره وسوداويتها.
في نجاح الممثل نجاح للعمل
"اعترافات" ديودرام جمع ممثلين محترفين، هما محمد بوزيد وعفاف رابحي، طاقة من التناسق والانسجام جمعت الممثلين طيلة العرض، تدريبات لأشهر طويلة نتج عنها انسجام مطلق في الحركة والاداء، على الركح نقل الممثلان مشاعر مختلفة، جابا بالجمهور حالات نفسية وعاطفية متعددة، تجوّلا في خبايا الذكرة وانتقلا من حالة الى اخرى اما عبر المنطوق او حركة الجسد ولغته الصامتة الثائرة، وكلّما بدى على احدهم "ربكة" العرض او بعض التوتر ينقذه الاخر بارتجال او حركة.
ليشكلا ثنائي متميز طيلة العرض فالممثل وهو يقف على خشبة المسرح يتشكل من متعدد، الإنسان العادي وهو مثل المتلقي الذي يشاهده، والإنسان المتخصص " الفنان " وهو هنا يمتاز عن الآخرين بهذه الميزة بما لديه من طاقات تخييلية تختلف عن الإنسان العادي، وهو كذلك، يستطيع أن يجسد لنا بمقدرة واعية جدا التجربة الإنسانية كإنسان مبدع يختلف مره أخرى عن الإنسان العادي، فهو " لا يعيش على منصه المسرح بصفته الشخصية فقط، وإنما بصفته فنانا وصانعا ومبدعا" كما كتب منصور عمايرة عن اداء الممثل.
"اعترافات" عمل يفكك المنظومة الزوجية والعلاقة بين الرجل والمراة، قراءة جديدة لنص عالمي بروح تونسية ونظرة مختلفة، تجربة اخرى تبحث في علاقات شائكة وتدافع عن المرأة وتدفعها للثورة واختيار ذاتها، فمريم تقرر الطلاق والنجاة بذاتها وإعادة بناء كينونتها الفنية والانسانية بعيدا عن نجاحات الزوج وجموحه المفرط وانانيته.
تجربة مسرحية تضع ثنائية المراة/الرجل على طاولة التشريح المسرحي وتعتمد اساسا على قدرة الممثل على تقمص اصعب الشخصيات والانتقال من حالة عاطفية ونفسية الى اخرى بكل سلاسة وحرفية، مع مؤثرات صوتية وضوئية وجماليات تؤثث مشهدية متناسقة وتساعد المتلقي على تفكيك شيرفرات المسرحية.