مسرحية "خوف سائل" اخراج صميم حسب الله المسرح كما النار المقدسة تحرق الجسد لتضيء الفكرة وتنير سبل التغيير

يهرب من واقعه الى الخشبة، يحوّل كل الوجع ودمار الحرب الابدية

الى اعمال فنية تنقد المجتمع وتعيد تشكيله من جديد، يحمل وطنه كشمعة ملتهبة للحب والحرية يحاول الحفاظ على نارها المقدسة التي لم تنطفئ من ملحمة جلجامش الى اليوم، يشعل نار مسرحه كلما انهكه الخوف من واقعه فالمسرح بالنسبة للفنان العراقي اكثر الملاجئ امانا والمسرح لدى صميم حسب الله اكثر الفضاءات حرية وتشبّعا بقيم الحياة رغم تفشي رائحة الموت والخوف.

هذا الخوف الذي حوّله الى تيمة فنية اشتغل عليها في اعماله "جليد" و"خريف" ثم "خوف سائل" نص حيدر جمعة وسينوغرافيا لعلي السوداني ومؤثرات صوتية وبصرية احمد سلمان واداء رضاب احمد ويحيى ابراهيم وبهاء خيون وهشام جواد واحمد المختار و"خوف سائل" محاولة مسرحية اخرى لاعادة بناء الذاكرة العراقية في ازمنة الارتحال والتاسيس والحروب.

جسد الممثل حمّال رسائل جمالية ورمزية

انين يملئ المكان، صوت لعلعات الرصاص يصم الاذان، يشتعل الضوء تدريجيا ليكشف للجمهور مساحة اللعب، بيت قديم، جدران شبه متهالكة والكثير من الابواب والنوافذ وجميعها موصدة، بعض قطع الطوب مرمية في الفضاء تكون احيانا مساحة لجلوس الشخصية او لمزيد سدّ كل منافذ العالم الخارجي، اما الانين فيسكون موسيقى تلازم العرض المسرحي مع صوت السلاسل وكلاهما سيكون وسيلة لقراءة دواخل الشخصيات ووجعها.
تتوزع الاضاءة خافتة في المكان، ذاك الفضاء الكبير شبه معتم، ومع صوت طرقات قوية على الباب تتوزع الاضاءة بشكل اكبر، تضطرب كما حركة الشخصية ثم يدخل المكان في العتمة بمجرد دخول شخصية جديدة من باب ومرورها الى اخر، هذه الشخصية لن تشارك في اللعب لكنها تصنع الاحداث، ومع تقدم احداث المسرحية يكتشف المتفرج انّ ذاك الزائر غير المرغوب فيه (لم فتحت الباب، هل انت منهم، كيف تفتح للقتلة؟) هو الخوف والموت والمرارة والارهاب والحرب جميعها متحدة في فضاء واحد.
فالخوف هو التيمة الدرامية والشكلية التي عمل عليها كاتب النص حيدر جمعة ونفذها على الخشبة صميم حسب الله، الخوف بمعناه المادي والرمزي قدمه ممثلين عرفوا كيف يتماهون مع وجع الوطن والشخصية، هم اربع شخصيات، امراة وثلاثة رجال، زوج وزوجة وابنيهما، لكل شخصية تموقعها داخل العمل ولكل ممثل دوره في تصاعد الحدث والانسجام مع بقية عناصر العمل، فالممثلين خبروا فضاءات العمل جغرافيا وفنيا، وعرفوا كيفية التعامل مع الفضاء لان طريقة اللعب على المسرح اختلفت عن البيت البغدادي، وحسب مناخات المكان كان تماهي الممثل مع شخصيته.
الخوف سيكون سبب اجتماع العائلة وهو سبب فرقتها ايضا، الاب اختار هذا البيت البعيد لينعزل بعائلته عن حروب الخارج وخوفه، اختار الابتعاد بابنائه علّه يظفر بالقليل من الطمانينة في بلد أكلته الحروب وسرقت منه امانه لعقود طويلة، حرب الكل شارك فيها، وفي العمل يتعاتب الزوجان لان عائلة كل منهما كانت شعلة للحرب والقتل "كان يشبهمم، اقربائكَ نكّلوا بجثث اقربائي؟، اما اقربائكِ فيهجرّون اقربائي؟" هنا عائلة كل منهما ساهمت في تأجيج نيران والشخصيتين هما احالة على كل مواطن ساهم بطريقة مباشرة او غير مباشرة في احتراق الوطن وانتشار لهيب الحرب بين ابنائه، والحل "ما دخلنا نحن بهم، تركنا كل شيء لنكون في هذا المكان"، فهل سيكون الفضاء البديل ملجئ حقيقي للطمأنينة؟.
من فكرة الخوف من الحرب والخوف من تاثيراتها السلبية على النفس انطلقت مسرحية "خوف سائل" لكن العائلة وقعت في خوف اشد وطاة هو الخوف من الاغتراب ثم الوحدة والموت التدريجي الذي جسّده الثنائي بهاء خيون ووهشام جواد وكلاهما يرمز الى المواطن العراقي والعربي، تجمعهما روابط اخوة قوية حدّ الترابط بسلسلة كبيرة الحجم تجعلهما في مسار واحد دوما ويختلفان حد الكره والرغبة في طمس الذاكرة والحضور.
يحمل الممثل وطنه وافكاره بين جنبات القلب ويستحضر الممثل واقعه ووجيعة ابناء بلده وماخزنته ذاكرته الانفعالية من مشاهد صادمة، يعيد قراءتها وتفكيكها ثم ترتيبها من جديد ليقدم شخصيته المسرحية، في "خوف سائل" تماهى كل ممثل مع وجيعة الشخصية وحاول ايصال كل تفاصيلها الى المتلقي، لكل منهم طريقته في الاداء ولكل وسائله ليقرئ الشخصية ويلبس افكارها ووجعها.
وبين الاخوين كان نصيب كبير من اللعب، الممثل بهاء خيون ابدع في تقمص شخصية الابن الاعمى، انينه وحركات جسده الموغلة في الاضطراب كشفت مدى هشاشة الشخصية من الداخل، دون الحاجة الى البصر لعب الممثل بحرفية وتعامل مع الفضاء وبقية الشخصيات، بهاء خيون كان جزء من نجاح العرض وتكامله، انينه وحركاته العمياء تماهت مع انين المتعبين في الخارج وعمى اصاب الكثيرين وعوض بناء الاوطان زادوا خرابها.
شاركه اللعب الممثل هشام جواد، شخصية مبصرة، انهكها الخوف والاغتراب، قليلة الحديث وكثيرة الحركة، في اغلب مشاهد العمل يشارك اما برفع الجثث الرمزية او المساهمة في اغلاق الثقوب المفتوحة، حركات متسارعة جدا تماما كدقات قلب طفل خائف واكثر اللحظات قوة تلك التي يعاكس فيها شقيقه الاعمى، بين الاخوين وحدة واختلاف، بينهما حب وكره، فكلاهما يرمز الى ثنائيتي الحياة والموت، وكل منهما تمنى ان يكون مكان الاخر علّه يظفر بقليل من الطمأنينة، فالممثلين كل عرف كيف يمسك بزمام الشخصية ويوجهها حسب مشاعره وافكاره لتكون متناسقة مع احداث المسرحية ويقنع المثل جمهور المسرح.

بانسجام الفكرة بين المخرج والسينوغراف يتشكل العمل جماليا

 

عاشت العراق الكثير من الحروب لعقود طويلة، وكل حرب تترك آثارها وندوبها على المواطن العراقي والفنان هو الاكثر حساسية تجاه كل الحروب والمآسي وهو القادر على اعادة قراءتها فنيا وابداعيا، ويعتبر الخوف بمعناه الرمزي والفني تيمة جمالية يشتغل عليها المخرج صميم حسب الله، في اعماله يكون الخوف نقطة انطلاق الفكرة ومنها يتطرق الى انعكاسات هذا الخوف على الانسان، لذلك اختار ان يكون الخوف في عمله الجديد منسكبا كما المياه على كامل مساحة اللعب.
"خوف سائل" هو اسم العمل، كلا المفردتين جاء نكرة وكانه احالة الى المطلق ومدى تغلغل الخوف فكرة وشعورا لدى الانسان في كل الدول التي عاشت الحروب، هذا الخوف سيتعامل معه المخرج ومصمم السينوغرافيا بحرفية من خلال استعمال تقنيات الاضاءة وكيفية توزيع بعض قطع الديكور ومعها حركات الشخصيات ووسائل التقنية الحديثة لتنفيذ افكار قادرة عن التعبير عن مشاعر الخوف والقلق الوجودي والفلسفي.
اذ تخلق التقنيات الحديثة امكانيات بصرية يتجدد معها التعبير لبناء خارطة جديدة في جغرافية العالم الافتراضي، الذي يتم تركيبه وبناءه على الخشبة، كما تحمل معها كثير من الخيارات التي ينتجها عقل المصمم والمخرج، وما يمكن ان ينتج بينهما من مزاوجة في الافكار وعملية تنفيذها عبر التقنيات الرقمية، بوجود مصمم محترف يستطيع توظيف هذه التقنيات وبرامجها في انتاج واقع الجديد على شكل صور لهذا الواقع الذي يراه الفنان، بعد ان يخضعه لسيطرته واعادة تشكيله، فالعمل الفني هو اعادة صياغة لاشياء موجودة في الواقع ولكن الفنان صاغها بصورة مثالية في خياله ثم نقلها للواقع بادواته وخبراته" هكذا كتب السينوغراف علي محمود السوداني ومن اعادة تشكيل الواقع مسرحيا بعثت خوف سائل عمل يسائل المواطن عن وطنه.
رائحة الخوف تعمّ المكان، اختار المخرج اللون الاسود لباس كل شخصياته مع تدرجات للضوء الاصفر الذي يعكس حالة الخوف والقلق بين الشخصيات، فهي متصلة حدّ التماهي ومنفصلة حد الاغتراب، اختيار البنية اللونية المائلة للاسود والاصفر مع مساحة قليلة من الأزرق ستكون طريقة المخرج ليكشف خوف شخصياته ومشاعرها المضطربة والقلقة دائما، فللضوء دلالته في العمل وهو طريقة لقراءة الشخصيات وواقعها واستعمل السينوغراف في عرض مسرح الرشيد اللون الرمادي المنعكس على الجدران ليكشف برودها وعتمتها، وفي عرض البيت البغدادي كانت الاضاءة صفراء تماهت مع لون الحجر ليعطي شعورا بالقلق لدى المتلقي وفي كلا المساحتين سيكون البيت يشبه القبر، باردا، معتما مسكون بالخوف.
بالاضاءة وتقنيات السينوغرافيا حمل المخرج مشاهدي عمله لاعادة قراءة حركات الشخصيات ومعها نقد الواقع وابراز مرارته، فالزوج بما يحمله من قوة وصمود يترك كل البلد ويختار بيتا منعزلا علّه ينجو من آثار الحرب، لكنه لا يستطيع التخلص من تيمة الخوف "لا اعرف سوى ان اخاف، اخاف القتلى يملئون الشوارع" والغيرة المفرطة على الزوجة، يعاملها بتكبر وعلوية حدّ اتهامها بالخيانة "ماذا صنعت كي تخونني" ويحاول رميها بقطعة القماش في اشارة الى الموت، شخصية قاسية الملامح قدمها يحى ابراهيم بحرفية ممثل خبر الركح.
المسرح فضاء للنقد وفي المسرحية احالة على التاثير السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي على تماسك العائلة، "فالانستغرام" و"التيكتوك" و"فايسبوك" اصبحت عنوان لشتات الافكار والعائلات في الكثير من البلدان، في "خوف سائل" وفي ذاك البيت المنعزل عن الجميع تسرب صور المراة عارية (دون غطاء للراس وملابس فضفاضة) حتى يهابها ابنها ويتهمها زوجها دون الرغبة في سماعها والانصات الى الحقيقة ومنحها ولو القليل من الوقت لتعبر عن صدقها ورفضها هي الاخرى للحروب وتاثيراتها، هذا الوجع النسائي وانينها المكتوم نقلته رضاب احمد للجمهور بتلقائية وتماهى مع فكرة الخوف والوجع، ليكون العمل تجربة فنية اخرى تضيء دروب التجريب والتجديد في المسرح العراقي.

 

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115