فضاء لرتيستو: عرض فيلم "أغورا" لعلاء الدين سليم :صرخة مدوّية عجائبية لانقاذ الطبيعة من انانية الانسان

ماذا لو عاد الموتى، ماذا لو قررت الطبيعة ان تكافئ الانسان وتعيد اليه قاذوراته وتجازيه على لامبالاته فيعود الموتى الى الحياة؟

ماذا لو بركُ الماء الاسنة لا تنضب والأجساد تنزّ دوما بماء مقزّز؟ ماذا لو تكلّمت الحيوانات وباحت بوجعها من معاملة الانسان؟ كيف ستشعر اذا اثمرت الارض خضارا متعفنة وجاد البحر بأسماك نتنة وميتة؟ ماذا لو تحوّل الماء الى ازرق داكن مزعج؟ صور مزعجة ومقزّزة ولكن ربما ستصبح حقيقة ذات يوم اذا واصل الانسان استهتاره بالطبيعة والبيئة؟ هكذا يدق علاء الدين سليم ناقوس الخطر عبر السينما علّ الضمائر الميتة تستيقظ من جديد وتحاول انقاذ الكوكب في فيلمه "أغورا".

"أغورا" فيلم روائي طويل، هو رحلة انتقال بين العجائبي والواقعي وسردية سينمائية مختلفة، بطولة ناجي القنواتي وبلال سلاطنية ومجد مستورة وسنية زرق العيون وفتحي العكاري ويبرز الفيلم خطر الانسان على نفسه والطبيعة.

الطبيعة تدقّ نواقيس الخطر فهل من منقذ؟

"أغورا" فيلم روائي طويل يمزج الواقعي بالغرائبي، سردية سينمائية مختلفة يتقنها علاء الدين سليم الوفي لأسلوبه وطريقته السينمائية في معالجة القضايا الكبرى، الفيلم حكاية يقدمها راويين مختلفين عن المعهود، كلبة زرقاء اللون، وغراب يبدأن القصة بسؤال "هل مازالت تراودك نفس الكوابيس؟" لتكون الاجابة "نعم، اشعر بكارثة قادمة" وبالفعل الكارثة قادمة في الفيلم والواقع.
الكارثة قدمت عبر عودة ثلاث شخصيات الى المكان بعد موتهم لأعوام، الشخصية الاولى راع ذبحه الارهابيين يعود الى بيته يقطر دما لا يتوقف، الشخصية الثانية امرأة ترمى في البحر في اطار "حرقة" فيلفظها البحر زرقاء اللون تنز مياه لا تتوقف مطلقا، الشخصية الثالثة عامل بلباس العمل توفي حين هوت عليه اكوام الرمال، يعود من حيث دفن والرمال متناثرة، ثلاثتهم موتى/احياء، اجساد حية لكنها لا تتكلم ولا تتحرك بمفردها، اجساد هلامية وحكاية غريبة تعيد بعث الريبة في المكان.
تنتقم الطبيعة من الانسان واستهتاره، تلتقط الكاميرا مشاهد للتلوث بكل تدرجاته، من الماء المتعفّن، الى البلاستيك الذي تحوّل الى زينة تشبه زينة شجرة الميلاد، احتفالات في قلب فضاءات مقززة بفعل الانسان، تبدع الكاميرا في تصوير انسيابية التلوّث، الالوان المسيطرة هى الاصفر، فالوجوه شاحبة وكان الرمال تعلوها، التدخين يصنع مجال جوّي يتماهى مع دخان المصانع فيرسم سيفونية الموت المقدّس، اما الاشجار والأعشاب فتحاول المقاومة ولكن بدورها تنزف تلوثا.
وما قدّم في الفيلم لم يأت من الفراغ ولا من وحي خيال كاتب السيناريو ومخرج الفيلم علاء الدين سليم اذ كشف تقرير موقع "نومبيو-Numbeo" لعام 2025 وهو قاعدة بيانات عالمية متخصصة في جمع وتحليل المعلومات، عن تصنيف تونس في المرتبة 37 عالميًا من بين 113 دولة شملها مؤشر التلوث، بمعدل بلغ 70.1، مما يعكس وضعًا بيئيًا متدهورًا يفرض تحديات كبيرة على الدولة والمجتمع. ويعتمد التصنيف على عدة عوامل ابرزها جودة الهواء وادارة النفايات ومستويات التلوث البيئي، وبالابتعاد قليلا عن الشاشة والعودة للواقع نجد صراخ اهل قابس بسبب التلوث وما يعانيه شاطئ سيدي منصور صفاقس وشاطئ رادس والزهراء بسبب التلوث والمصانع وما تعيشه الغابات من محاولات بشرية لاعدامها، فالتلوّث وخطره حقيقة موجعة عرف علاء الدين سليم ابرازها للمتفرج.
صور مقززة تنقلها الكاميرا، مشاهد مؤلمة ترجّ المتلقي علّه يستفيق من فوضاه تجاه الطبيعة، فالفيلم يرجّ المتفرج ويدفعه للتفكير في كيفية انقاذ البيئة وما تبقّى علّه ينقذ نفسه من خطر السرطان بكل مسمياته الذي سيكون نصيب عدد من الشخصيات، فحسب التقارير يقدر العلاج المرتبط بالامراض الناجمة عن التلوث يكلف الادولة حوالي 500مليون دولار سنويان خاصة مع ارتفاع المصابين بالامراض التنفسية والمزمنة الناجمة عن التلوث وهو ما سيراه الجمهور فالدكتورة "العويني" تموت بفعل السرطان وفتحي رجل الامن بدوره يعاني من ازمة تنفس تحيله الى الانعاش، وبين جمالية الخيال وبشاعة الحقيقة تتارجح الكاميرا، لتلامس وجع الطبيعة وتدق ناقوس الخطر البيئي بفعل استهتار الانسان وانانيته المفرطة، في الفيلم يقرر السادرين الغراب والكلب مغادرة المكان المتعفّن بحثا عن فضاء افضل للحياة، لكن اين سيغادر الانسان؟.

حلول السلطة الترقيعية بوابة اخرى للموت

تعود الاجساد المخيفة فتبعث الخوف في المنظومة، يحاول رئيس المركز "فتحي" (ناجي القنواتي) التحقق من المسالة بمساعدة من صديقه الطبيب امين (بلال سلاطنية) مع التكتّم الكلي عن الموضوع، عودة الاموات مسالة تغري بالبحث العلمي لكنها تزعج السلطة، تعود الاجساد ومعها تعود دفاتر قديمة اغلقت بسبب تقاعس السلطة.
فالراعي نحره الارهابيين لعجز السلطة عن حماية مواطنيها وعدم تحريها الكلي في اماكن وجود خفافيش الظلام، والعامل دفن تحت الرمال لعجز السلطة عن توفير منظومة شغلية تحترم كرامة الانسان، اما الغريقة فتركت وطنها حالمة بعيش كريم في اروبا الجنة المفقودةن عجزت السلطة بمنظوماتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية في احترام كرامة مواطنيها، فماتوا اوّلا، وبعد فوضى البشر تجاه الطبيعة تقرر المنظومة البيئية الانتقام من الانسان فتعيد له موتاه وتضعه في خانة العجز والبحث عن الحلول.
تعجز المنظومة عن تحقيق السلم الاجتماعي، فالناس يعرفون ان هناك كارثة ما، فالبحر يلفظ اسماكه الميتة، الارض بدورها تثمر خضارا متعفنة، اما الطيور فتستعمر الاشجار المثمرة وتفسد الصابة، وحدة الطبيعة ترعب الناس فتدفعهم للاحتجاج ومحاولة معرفة ما الذي تخفيه السلطة من جهة ولم عادت الاجساد من ناحية ثانية، يحدث الصرّاع بين المواطنين والمنظومة التي تلجئ الى سلاحها الافضل "المنظومة الامنية الردعية" فتسجن الجميع حتّى لا تنتشر عدوى الفوضى، لكن السلطة تعجز امام جبروت الطبيعة.
في "اغورا" ينقل سليم فشل السلطة في تعاملها مع المسائل الكبرى، يبرز عجزها امام زحف خطر الموت بفعل التلوّث ومحاولتها استعمال الهدنة وإيجاد حلول وهمية وحينية غير فعالة، فالكلاب السائبة تقتل، والمجتين يسجنون، والطيور تطرد بالادوية الكيميائية، والجثث العائدة تُخفى، حلول ترقيعية تعتمدها لتبرئة نفسها واغلاق ملفات فشلها، حتّى العلم تكتّم افواه اصحابه بجملة "خلي الموضوع عنا، خرج من يديكم" التي يقولها ممثلي الفرقة19 الذين جاؤوا من العاصمة خصيصا لدراسة الملف، في الفيلم تسليط الضوء على عجز المنظومات تجاه المشاغل البيئية ومحاولة لاستنهاضها علّها تجد حلول جذرية.

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115