الى احدى النساء اللواتي اثرن في المشهد السياسي التونسي قبل الاستقلال وبعده، "الماجدة" او سيدة تونس الاولى سارقة قلب بورقيبة، حبيبته وزوجته ورسوله السري في العديد من المرات، "الماجدة" او "وسيلة بن عمار" او "وسيلة بورقيبة" او "فاسيلا" اسم الدلع جميعها اسماء متعددة لشخصية واحدة اثرت في التاريخ المعاصر وساهمت بطريقة مباشرة وغير مباشرة في العديد من القرارات السياسية لتونس بعد الاستقلال.
الماجدة قررت اميرة غنيم استنطاقها والانصات لها ولحكايتها منذ الطفولة الى حين غادرت الحياة، الماجدة ستتحدث لقارئ اليوم عن حكاياتها مع الرئيس الحبيب بورقيبة، ستنزع القدسية عن المجاهد الاكبر وتدخل القارئ الى عوالم الحب والسلطة والصراع بينهما، من سلطة الحبّ التي عاشت فيها وسيلة الى حبّ السلطة والهوس بها تكون الرحلة الواقعية في اسماء شخصياتها وأمكنتها وخيالية من حيث بنية السرد وبعض جزء من احداث "تراب سخون" الصادرة عن مسكلياني للنشر.
ماذا لو تحدّثت الماجدة عن حراستها للجمهورية؟
تبدع اميرة غنيم في التلاعب بالكلمات، لها اسلوبها السردي الموغل في البساطة والعمق في الوقت ذاته، تتجول بقارئها بين الماضي البعيد والحاضر زمن كتابة الرواية، تنطلق من الراهن حيث وجدت "جيهان" العاملة كمصححة باحدى دور النشر "فلاش" عليه العديد من الوثائق والتسجيلات بصوت وسيلة بورقيبة وترحل به الى الماضي حين تعطي المساحة لوسيلة لتتحدث عن طفولتها وذكريات الصبا مع الحبيب بورقيبة قبل ان يكون رئيسا للجمهورية التونسية.
وبينهما تنثر الكاتبة مشاعر الحب وتجعله السلاح الاصدق لبناء حبكة قصصية ونسق سردي ممتع، فالحب دفع وسيلة الى المظاهرات والسفر وحماية حبيبها من المتكالبين عليه وعلى سلطته، والحب جعل بورقيبة المجاهد الاكبر ومحرر تونس ضعيفا ومبتزا، يهدد رجلا (علي زوجها الاول) ويدفعه ليطلق زوجته لانها يحبها " يحبّ فخامته ان اقدّم له زوجتي حتى تستقر الجمهورية، لان فخامته، فريد السلك وحيد العصر يرى ان الجمهورية وهو واحد، فخامته قال لين ربي يبقيه انه لا يقدر على العيش بعيدا عن وسيلة".
الماجدة وسيلة بورقيبة شخصية مثيرة حيكت حولها العديد من الحكايات، اتهمها عدد بالسيطرة على المجاهد الاكبر، اخرون اتهموها بالتدخل المباشر في السياسة التونسية وفريق ثالث اتهمها بالفساد وتهريب الاموال وحكايات عديدة قيلت عن "وسيلة" التي احبها بورقيبة وكرهها الشعب بعد الطلاق.
وسيلة "المتكبرة" وسيلة "خطفت الرجل من زوجته" "كانت عشيقته والعياذ بالله، سكنت معه بعد الاستقلال في المرسى من غير زواج العشيقة والرئيس في قصر اللا قمر لا عقود لا شهود" ، وسيلة الذكية رغم عدم اتمامها لدراستها هكذا تعرّف بنفسها، هي "حارسة الجمهورية" تمنحها اميرة غنيم فرصتها لتحدثنا عنها، تبوح بأسرارها وفي حديثها ستنزع القدسية عن الحبيب بورقيبة. "نعم يا جاكلين الزعيم المفدّى الذي رفع المراة التونسية الى مقام لم تبلغه امراة عربية قبلها صفع زوجته في نوبة غضب ومزّق خصلة من شعرها".
جولة في حديقة الغام سياسية تبدع غنيم في صناعتها
"تراب سخون" عنوان الرواية، من العتبة تجبر الكاتبة قارئها ليتهيأ نفسيا لحرارة الكلمات، عتبة الرواية عنوانها الحارق و"تراب سخون" كلمة من الموروث الشفوي وعادة ترمز الى قدسية الشخص او المكان وفي روايتها ستختار اميرة غنيم شخصيتين لكل منهما قدسيته في المخيال التونسي هما الحبيب بورقيبة وزوجته وسيلة بورقيبة، وستنصت اميرة اليهما عبر بوح وسيلة من جهة وكتابة سعاد الكامل ممرضة بورقيبة لبعض الرسائل ومنها ستلتقط الكاتبة بذكاء العديد من الاحداث وتعيد سردها باسلوبها الروائي الشيق حدّ دفعنا كقراء اما لمزيد البحث عن حضور الماجدة في السياسة او زيارة متحف باردو ومحاولة اعادة قراءة فسيفساء "نيريدات قرطاج" التي دارت حولها احداث الرواية بسبب ذاك "الشيء المعدني" الغامض.
قسمت الكاتبة روايتها حسب فترات تاريخية مختلفة، انطلقت برسالة "جاكلين غسبار الى سعاد الكامل عام 2013" ثم تواريخ متعددة تبدأ عادة بمقطع اغنية تونسية وشرائط مسجلة تعود لاعوام 1999 و 1998 حين قررت الماجدة ان ترسل بقصتها الى صديقتها الصحفية على اشرطة غنائية "دهم الموت الماجدة، قبل ان تنهي قصتها، راسلتني قبل اربعة عشرة عاما تخبرني بانها تنوي ما بداناه في السبعيناتن قالت انها تريد ان يحفظ التاريخ سرّا خطيرا سترويه لي منجّما على حلقات تسجلها بصوتها على شرائط، وحرصا على السرية لم تعتمد على شرائط فارغة، بل اقتنت مجموعة من الشرائط الموسيقية مما توفّر في السوق التونسية اواخر التسعينات، وسجّلت صوتها على تلك الشرائط، وامعانا في التمويه تعمدت ان تترك مقاطع من الاغاني الاصلية في مطلع كل وجه من الشريط".
"تراب سخون" عنوان يغري باكتشاف ما داخله، تقسيم ذكي للاحداث التاريخية وحتى الخط المستعمل يختلف من شخصية الى اخرى، بحث سياسي وروائي في تاريخ الزعيم الحبيب بورقيبقة على لسان حبيبته وسيلة التي احبّها منذ لقائهما الاول وقرر الزواج بها وكان مهرها الاستقلال "
"ستتزوجينني يا بنية، لم تلد النساء مجنونة ترفض المجاهد الاكبر
فأجبت مماطلة: لا يكون المجاهد اكبر حتى يأتي لبلاه بالاستقلال ..هات الاستقلال يا مجاهد "صغرون" واتزوجك".
الحبيب بورقيبة اول رئيس للجمهورية التونسية، كتب الكثير عن انجازاته السياسية، بورقيبة شخصية مقدسة لدى العديد من ابناء الجمهورية، له مريدين ومدافعين عن شخصه وافكاره، هذه المرة تلتقط اميرة غنيم تفاصيل اخرى عن شخصية الزعيم، تقترب باسلوبها الى بورقيبة العاشق، الحبيب الانسان وتكسر جدار السلطة العازل وتستنطق حبيبته ثم زوجته فطليقته وسيلة بورقيبة لتتعرف اكثر على بورقيبة الانسان وليس السياسي، بورقيبة الذي اعتقد انّه رمز للجمهورية التونسية وسيبقى خالدا في الحكم لكنّه انتهى الى منفى اجباري "سانية في مرناق، ثم بيت الوالي في المنستير"، بورقيبة اعتقد انّه الجمهورية ""حسبت نفسك في منعة بفضل رصيدك النضالي، فاذا بك افلست من زمن ولم تشعر، اثقلتك العلل ورزاتك حكمتك الشيخوخة، حتى غدوت عبئا على الدولة التي انشاتها بعزمك ونفاذ بصيرتك والعجيب ان الشعب قد نفض منك يده وركنك في مخزن الاشياء القديمة".
تمزج الواقع بالخيال، تتقن المرور من متن الى اخر، اميرة غنيم تبدع في استنطاق الموروث والتاريخ وتكتبه بأسلوبها البسيط والعميق في الوقت ذاته، تجبر قارئها على البحث بعد اتمام الرواية، تدفعه لاعادة قراءة بعض الاحداث، والسؤال: قد رحل الزعيم وتغيرت الاسماء؟ فهل تغيرت المنظومة؟ هل تحسنت وضعية النساء العاملات في الفلاحة؟ هل تحققت العدالة الاجتماعية؟ هل تغيرت سبل التفكير في تونس الحديثة؟ ومن يكتب التاريخ؟ وهل تغيرت سبل السياسيين في علاقتهم مع الكرسي فبورقيبة سقط بسبب عنهجيته وبن علي نزعت عنه السلطة بسبب الغرور والتجبّر ايضا؟.