قهوة الأحد: كيف نُعيد الى محركات النمو حيويتها ؟

تشكل محركات النمو الهاجس الأساسي للاقتصاديين والمسؤولين على السياسات الاقتصادية في كل أنحاء العالم .وتشكل هذه المحركات

كل العناصر التي تضخ الحيوية والديناميكية في الجسم الاقتصادي ومن بينها الاستثمار العمومي والاستثمار الخاص والتصدير والاستهلاك والتي يضع المسؤولون على السياسات الاقتصادية اهم مؤشراتها في لوحة قيادة (tableau de bord) لمتابعتها بطريقة دقيقة ومتواصلة .وتشكل السياسات الاقتصادية أداة الحكومات للتدخل في مسارات محركات التنمية لتنشيطها ودفعها عند تراجعها او للتخفيض منها عند الغليان لتفادي التضخم .

وقد شكلت محركات النمو في بلادنا الهاجس الاكبر قي المجال الاقتصادي خلال العشرية الاخيرة .فلئن لم تعرف مستويات النمو ارتفاعا كبيرا لتصل الى المستويات التي عرفتها البلدان الصاعدة كالصين والهند والنمور الآسيوية خلال الفترة الممتدة من 2000 الى 2008 فقد ساهمت محركات النمو في المحافظة على مستوى محترم من النمو في بلادنا خلال هذه الفترة .
إلا ان هذه المحركات شهدت تراجعا كبيرا في العشرية الاخيرة لتعرف بلادنا مستويات نمو ضعيفة ومحدودة مما ساهم في الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي نعيشها .وقد تواصل هذا التراجع والبطء خلال الأشهر الأخيرة ليبقى التساؤل حول شروط عودة محركات النمو الى حيويتها ملحا وأساسيا .
- تواصل ضعف النمو خلال سنة 2022
أصدر المعهد الوطني للإحصاء أرقام النمو للسنة المنقضية والتي بلغت %2.4 وتراجعت مقارنة بسنة 2021 والتي كانت في مستوى %-4.3 ولئن حافظ النمو على مستوى ايجابي في وضع تنامي الأزمة المالية وحالة الغموض والضبابية نتيجة عدم وصولنا الى اتفاق مع صندوق التقد الدولي الا انه عرف تراجعا كبيرا مما يشير الى تآكل وتراجع آليات النمو ومحركاته .وسيتواصل هذا التراجع خلال السنة الحالية حيث لن يتجاوز النمو %1.8 حسب التقديرات الرسمية التي قدمها قانون المالية لسنة 2023.
وقد عرفت أغلب القطاعات الاقتصادية تراجعا مقارنة بالسنة المنقضية .فقد كان معدل النمو في الفلاحة %2 لسنة 2022 والصناعة %2.5 ولئن عرفت الصناعات المعملية تطور مهما وصل الى نسبة %5.3 فإن قطاع الطاقة والمناجم عرف تراجعا كبيرا قدر بـ%6.3.لتتواصل الأزمة في هذا القطاع الذي شكل احدى الإشكالات الكبرى في العشرية الاخيرة والذي القى بثقله على الوضع الاقتصادي .
ولعل التراجع الأكبر والأهم يخص قطاع البناء والتشييد والذي بلغ (-%9.9) في السنة الاخيرة وكانت للتراجع الكبير لهذا القطاع انعكاسات سلبية على الوضع الاقتصادي العام باعتبار تأثير البناء والتشييد على أغلب القطاعات الاقتصادية .
كما لعب قطاع الخدمات دورا مهما في المحافظة على هذا المستوى من النمو بفضل تحقيقه لنسبة نمو تقدر بـ%3.3.وتعتبر المساهمة الأبرز لهذا القطاع وخاصة للقطاع السياحي في توفيره لمداخيل كبيرة من العملة الصعبة مما مكن ميزان الدفوعات من الصمود امام التقلبات العالمية وبالتالي المحافظة على مستوى محترم من الاحتياطي للعملة الاجنبية.
تشير هذا الارقام والنتائج الاقتصادية للسنة المنقضية الى التراجع المتواصل للنمو وفقدان محركات النمو لحيويتها وفقدانها لقدرتها على تنشيط الاقتصاد .
والسؤال الذي يطرح نفسه يهم أسباب فقدان محركات النمو لبريقها وأجيجها وقدرتها على تنشيط الاقتصاد ودفعه كما كان الشأن في سنوات خلت .
- في أسباب تراجع محركات النمو
إن أسباب هذا التراجع وبطء محركات النمو عديدة ومتنوعة .وسنتوقف في هذا المقال على أربع مسائل أساسية وعناصر ساهمت في هذا التراجع وانخفاض مستوى النمو .
المسالة الاولى تعود الى الوضع السياسي وعدم الاستقرار وعدم الوضوح الذي تعيشه بلادنا منذ عشر سنوات .وينسى الكثيرون أن الاقتصاد سياسي بالدرجة الاولى ولا يقتصر على المعادلات الاقتصادية التقنية والكمية بالرغم من أهميتها .
وقد كان لهذا الوضع السياسي وغياب الاستقرار والوضوح تأثير كبير على الأوضاع الاقتصادية اذ لم يكن الاستثمار الداخلي والخارجي بالمستويات التي يمكن لبلادنا ان تستقطبها خاصة بعد ازمة العولمة ومحاولة المؤسسات الاقتصادية الكبرى الخروج من سلاسل الانتاج العالمية وإعطاء توجه استراتيجي اقليمي لاستثماراتها .
وتهم المسألة الثانية والتي لعبت دورا كبيرا في تراجع محركات النمو في بلادنا طبيعة الهياكل الاقتصادية وتآكل منوال التنمية الذي عاشت عليه بلادنا منذ منتصف السبعينات.وقد ارتبط هذا المنوال بقطاعات اقتصادية وصناعية فقدت حيويتها على مستوى السوق العالمية نظرا لاعتمادها على الصناعات ذات الكثافة العمالية .ولا يمكن ان ننسى هنا بروز قطاعات واختصاصات جديدة مرتبطة بما نسميه بالصناعة 4.0 التي تعتمد على التكنولوجيا الحديثة .وقد اصبحت بعض مؤسساتنا في فترة قصيرة من المؤسسات ذات التنافسية الهامة في الأسواق العالمية .إلا ان بدايات هذا التحول الاقتصادي نحو القطاعات الفاعلة ظلت تفتقد الى سياسة صناعية فاعلة وقادرة على دعم محركات النمو وتنشيط الاقتصاد .
ويكمن العنصر الثالث وراء بطء وتراجع محركات النمو في غياب رؤيا وتصور استراتيجي لمستقبل الاقتصاد في بلادنا وللتحول الاقتصادي الذي يجب ان نخطط له من اجل الخروج من "فخ البلدان المتوسطة" والدخول الى نادي البلدان الصاعدة .فقد غلب الهاجس اليومي على سياساتنا الاقتصادية وخاصة المالية منها وذلك من اجل حماية توازناتنا المالية الكبرى في غاب نظرة استراتيجية .
أما المسألة الرابعة والتي ساهمت في تراجع وبطء محركات النمو في بلادنا فتهم انعكاسات الازمات الاقتصادية العالمية .فقد كانت العشرية الاخيرة فترة اضطرابات كبرى في الاقتصاد العالمي منذ الأزمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009.وقد تتالت الازمات والاضطرابات منذ تلك الفترة مع الارتفاع الكبير للأسعار العالمية للطاقة والمواد الاولية والتي كان لها تأثير كبير على موازناتنا المالية الكبرى والتي عرفت انخراما كبيرا .وستأتي جائحة الكوفيد والانعكاسات الاقتصادية والمالية للحرب الروسية لتزيد من تعميق جراحنا وتساهم في تراجع وبطء محركات النمو في بلادنا .
وقد لعبت هذه العناصر دورا مهما في التراجع المتواصل لمستويات النمو والذي سيتواصل خلال هذه السنة حسب التوقعات التي قدمتها الحكومة في قانون المالية لسنة 2023.
ولعل السؤال الذي يقض مضاجع الفاعلين الاقتصاديين يهم سيناريوات الوضع الاقتصادي خلال سنة الحالية .
- توقعات الوضع الاقتصادي سنة 2023
قامت عديد المؤسسات الدولية بدراسات لاستشراف تطور الوضع الاقتصادي في بلادنا خلال السنة الحالية .ويدخل هذا العمل ضمن صلوحيات ومهام هذه المؤسسات حيث تقوم به كل دول العالم وفي الكثير من الاحيان بطلب منها .ويمكن لهذه الدراسات ان تقتصر على توقع اهم المؤشرات الاقتصادية المستقبلية للدول الى دراسات اكثر شمولية .
وفيما يخص بلادنا قدمت عديد المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والبنك الافريقي للتنمية توقعاتها لمستويات النمو خلال هذه السنة والتي كانت في اغلبها اكثر تفاؤلا من توقعات الحكومة.إلا ان التقرير الاهم في هذا المجال هو الذي اصدرته مؤسسة "ستاندار اند بور" (standard Poor’s) للترقيم السيادي حول بلادنا منذ ايام .وقد اكدت الوكالة في تقريرها على اهمية الوصول الى اتفاق مع صندوق النقد ورصدت ثلاثة سيناريوهات ممكنة لتطوير الأوضاع في بلادنا .السيناريو الاول او سيناريو "الضغط المرتفع" (stress sévère) كما أسمته الوكالة فيهم غياب اتفاق مع صندوق النقد الدولي والذي سيقود الى توسيع انخرام التوازنات الكبرى للمالية العمومية وميزان الدفوعات اضافة الى جانب تراجع قيمة الدينار وتطور التضخم وبالتالي سيقود هذا السيناريو سيقود الى صعوبات كبيرة .
اما السيناريو الثاني فهو اكثر تفاؤلا وقد اطلقت عليه الوكالة سيناريو"الضغط المنخفض" والذي يأتي اثر اتفاق مع صندوق النقد الدولي خلال الثلاثي الاول للسنة الحالية والذي سيفتح ابواب التمويل للمؤسسات الدولية والتمويل الثنائي ليخفف من الضغط على توازناتنا الكبرى ويسمح لنا بالانطلاق في الاصلاحات الكبرى وتنشيط الاقتصاد .
اما السيناريو الثالث فهو السيناريو الوسيط والذي اطلقت عليه الوكالة سيناريو "الضغط المتوسط" وهو الذي سيدفع الحكومة الى الاتجاه الى السوق المالية الداخلية لتمويل المالية العمومية في ظل غياب اتفاق مع صندوق النقد.وقد انطلقت الحكومة في تفعيل هذا التمشي حيث تمكنت من الحصول على 715 مليون دينار من الاكتتاب في القرض الرقاعي الوطني في الفترة الممتدة بين 6 و15 فيفري 2023.ويعتبر هذا القرض الاول من اكتتاب من اربعة اقساط خلال سنة 2023 بمقدار اجمالي ب2.8 مليار دينار .
إلا ان التخوفات من هذا السيناريو تكمن في ان مستوى الاقتراض من السوق الداخلية سيتجاوز هذا المبلغ مما سيؤدي الى الضغط على التمويلات المخططة للقطاع الخاص وسيزيد من هشاشة البنوك .
تعيش بلادنا ازمة اقتصادية ومالية عميقة ساهمت في تراجع محركات التنمية وتواصل بطء النمو في السنوات الاخيرة .وللخروج من هذه الازمة لابد من صياغة استراتيجية انقاذ واضحة المعالم كذلك تنقية المناخات .

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115