في علاقة بالأزمات الكبرى التي يعيشها العالم. ويشكل مستقبل التنمية احد مجالات النقاش والبحث لضبط تصورات وملامح استراتيجيات جديدة لمشروع الرفاه والازدهار في البلدان النامية في السنوات القادمة.
ويطرح هذا النقاش عديد المسائل الفكرية والنظرية إلى جانب الاختيارات السياسية واولويات السياسات العمومية. سنتوقف في هذا المقال على مسألة نظرية تهم المفاهيم التي تقود السياسات والاختيارات الكبرى في مجال التنمية، كما سنهتم بالفوارق والتمييز بين مفهومين شائعين وكثيري الاستعمال في ادبيات التنمية والتفكير الاقتصادي بشكل عام. في هذا الإطار سنحاول التوقف وتحليل الفوارق ومميزات مفهوم النظام الاقتصادي (ordre économique) من جهة ونمط التنمية (modèle de développement). ولا يقودنا في البحث ونقاش الفوارق بين المفهومين شي من الترف الفكري او اختيار الغوص في المسائل النظرية. ان محاولتنا نقاش هذين المفهومين تنخرط في نقاشات وجدل له انعكاسات على مستوى السياسات العمومية، فقد عرف النقاش حول نمط التنمية في بلادنا مساهمات كبيرة منذ بداية القرن. وقد ازداد هذا النقاش حدة بعد الثورة حيث اعتبر الكثير من المحللين والقراءات المختلفة ان فشل نمط التنمية هو احد العناصر التي ساهمت في الحراك الثوري والاجتماعي الذي عرفته بلادنا منذ ثورة الحوض المنجمي سنة 2008 وصولا إلى الثورة وسقوط منظومة الحكم. وقد اعتبر اغلب المحللين ان تصاعد البطالة وخاصة بطالة أصحاب الشهائد والتهميش الاجتماعي والفوارق الجهوية بين الداخل والمناطق الساحلية قد شكلت الوقود الاجتماعي والاقتصادي للثورة وكان ذلك نتيجة لفشل وسقوط نمط التنمية الذي وقع اتباعه في بداية السبعينات على غرار عديد البلدان النامية والذي جعل من خيار العولمة الخيار الاستراتيجي للتنمية. في نفس الوقت اعتبر عديد المحللين والقراءات فشل بلدان الربيع العربي في بناء نمط تنمية جديد قادر على رفع التحديات الاجتماعية والاقتصادية احد اسباب فشل تجارب التحول الديمقراطي.
والسؤال الذي نريد طرحه اليوم، هل نحن بحاجة إلى نمط تنمية جديد أم الى نظام اقتصادي جديد لبناء فترة رخاء ورفاه جديدة؟ في اجابتنا عن هذا التساؤل سنؤكد ان الغرض من هذا التساؤل والنقاش الذي نفتحه في هذه السلسلة من المقالات ليس الغوص في المسائل الفكرية بل ان له أبعاد عملية مباشرة من حيث تحديد أولويات التنمية السياسات العمومية في البلدان النامية في السنوات القادمة.
نظام اقتصادي أم نمط تنمية: الاستراتيجيات و السياسات
يساهم التمييز الذي نقوم به في هذا المقال بين مفهومي النظام الاقتصادي (ordre économique) ونمط التنمية (modèle de développement) في تيسير عملية تحديد السياسات العمومية والاختيارات الكبرى في مشاريع التنمية.
في رأيي يهم مفهوم النظام الاقتصادي المجالات الاستراتيجية في المجال الاقتصادي والتصورات الكبرى التي تقود وتهيكل الإطار العام للسياسات والاختيارات الاقتصادية في فترة تاريخية معينة. وفي هذا المجال يمكن أن نشير إلى النظامين الاقتصاديين اللذين عرفهما العالم منذ الأزمة الكبرى لسنة 1929. النظام الأول هو نظام دولة الرفاه كما يسميه الفكر الليبرالي او راسمالية احتكارية الدولة كما يشير اليه الفكر الماركسي. ولئن اختلفت التسميات الا ان النظام واحد ويهم عودة الديناميكية الاقتصادية بصفة اساسية داخل حدود الدولة الوطنية مع دور كبير للدولة وتدخل مباشر في المجال الاقتصادي. ولئن كانت بدايات ظهور هذا النظام أثر الأزمة العالمية لسنوات 1929 الا ان عصره الذهبي سيكون أثر الحرب العالمية ليدخل في أزمة كبيرة في منتصف السبعينات. اما النظام الاقتصادي الثاني فهو نظام العولمة الذي انطلق منذ نهاية السبعينات ليتواصل قرابة نصف قرن. وقد فتحت ازمته في السنوات الأخيرة مجال البحث على نظام اقتصادي جديد.
ويرتبط ظهور نظام اقتصادي ببروز توافق عالمي بين الدول حول الخيارات الاستراتيجية الكبرى في المجال الاقتصادي. ويساهم الاقتصاديون في بناء المرتكزات النظرية للنظام الاقتصادي الجديد من خلال بحوثهم للنظرية ودراساتهم. وتساهم المؤسسات المالية الكبرى والمؤسسات الدولية في ضبط الجوانب العملية للنظام الاقتصادي ودفع كل بلدان العالم الى الانخراط فيه.
اما نمط التنمية فيختلف في راينا عن النظام الاقتصادي من حيث هوترجمة للاولويات والاختيارات الكبرى إلى سياسات عملية على عديد المستويات. فاختيار نمط التنمية يقود إلى ضبط أولويات قطاعية في المجالين الصناعي والزراعي. كما يستدعي نمط التنمية الجديد ضبط قوانين جديدة في عديد المجالات خاصة منها الاستثمارية.
كما يدعو نمط التنمية إلى ضبط سياسات جديدة في المجال التجاري النقدي والمالي. ويتطلب نمط التنمية الجديد إعادة النظر في حجم وتوجهات تدخل الدولة ودعمها للمجالات الاقتصادية.
تشير هذه الملاحظات الأولية إلى أن الاختلاف بين النظام الاقتصادي ونمط التنمية يهم موقع كل منهما في التدرج العام لتكون الاستراتيجيات والتصورات الكبرى في اهتمامات النظام الاقتصادي بينما يسعى نمط التنمية لترجمتها لسياسات عملية لتحقيق أهدافها.
ويبقى السؤال، أمام الأزمات الكبرى هل نحتاج اليوم الى تغيير جذري في النظام الاقتصادي ام إلى نمط تنمية جديد؟
يتبع