عصر الرفاه الجديد ونهاية الجدل حول أنماط التنمية (2)

على ضوء الأزمة الخانقة التي تعيشها اغلب البلدان النامية بدأ التفكير والبحث عن تصورات جديدة للخروج من هذه الأزمات

وبناء مرحلة رفاه جديدة تؤسس لتجربة جمعية جديدة. وقبل الخوض في أهم ركائز وخصوصيات هذه المرحلة الجديدة من الرفاه (la nouvelle prospérité) وركائزها ودور الدولة في بنائها سنحاول التوقف في هذا المقال على اهم المشاريع الكبرى للتنمية التي عرفها العالم منذ بداية مسارات استقلال الدول النامية وبناء الدولة الوطنية في بداية الخمسينات الى يومنا هذا.

- مشروع التنمية والاختيارات الاستراتيجية

ان دراسة تاريخ المسارات الكبرى للتنمية منذ بداية الخمسينات تمكننا من تمييز خيارين او رؤيتين استراتيجيتن هيمنتا على السياسات العمومية ومشاريع التنمية في أغلب البلدان النامية.

مسح التصور الأول والذي اطلقنا عليه تنمية بناء المشروع الوطني منذ بداية الخمسينات إلى بداية الثمانينات وكان لهذا المشروع يهدف إلى الخروج من دائرة الاقتصاد الاستعماري والتبعية للمركز الامبريالي من خلال بناء اقتصاد وطني حديث يسعى إلى تنويع النسيج الاقتصادي والقطع مع اقتصاد الريع. وجعل هذا المشروع من حدود الدولة الوطنية مجال تطوره ونموه.

ولئن اختلفت التلوينات الايديولوجية للأنظمة السياسية في بلدان العالم الثالث بين أنظمة اشتراكية واخرى ليبرالية فإن خصائص وأهم ركائز المشروع الاقتصادي الوطني الذي هيمن على السياسات العمومية في هذه الفترة متقاربة إلى حد كبير. ويمكن لنا الإشارة إلى خمس خصائص كبرى تميز إلى حد كبير هذا المشروع الاقتصادي.

اما الخاصية الأولى لهذا المشروع فهي خيار التحديث في كل القطاعات الاقتصادية مثل الصناعة والفلاحة والخروج من أشكال الإنتاج التقليدية. وتحديث الاقتصاد تطلب استثمارات كبيرة في أغلب القطاعات الإنتاجية وكذلك في مجال البنية التحتية.

وتهم الخاصية الثانية لهذا المشروع الاقتصادي الدور المركزي والاساسي للدولة والذي يمس مجالات كبيرة من التخطيط وضبط السياسات والتدخل المباشر في الاقتصاد من خلال الاستثمارات العمومية والشركات العمومية وكذلك في مجال التمويل من خلال البنوك العمومية.

وتخص الخاصية الثالثة لهذا المشروع الاقتصادي تركيزه وتوجيهه للديناميكية الاقتصادية داخل الحدود الوطنية من خلال الاختيار الأساسي لإنتاج الحاجيات الوطنية داخليا من خلال ما أصبح سياسة عامة في أغلب البلدان النامية وهي سياسة تعويض الواردات (import- substitution strategy) بانتاج داخلي ومحلي.

اما الخاصية الرابعة لهذا المشروع الاقتصادي فاتجهت إلى أهمية تنويع النسيج الاقتصادي من خلال سياسات صناعية إرادية وديناميكية للقطع مع التخصص الذي وضعته البلدان الكولونيالية لتلبية حاجياتها في أغلب البلدان النامية.

واتجهت الخاصية الخامسة إلى السياسات الحمائية خاصة في المجال التجاري من المنافسة الأجنبية لإعطاء المجال للصناعات الناشئة في البلدان النامية كي يشتد عودها.

شكلت هذه الخصائص الكبرى اساس النظام الاقتصادي الوطني والذي هيمن على تجارب التنمية في بلدان العالم الثالث من بداية الخمسينات الى بداية الثمانينات مهما اختلفت تلويناتها السياسية والايديولوجية. وقد نجح هذا المشروع والنظام الاقتصادي الوطني في بناء مرحلة نمو وتطور ورفاه كبيرة مكنت عددا كبيرا من بلدان العالم الثالث من الخروج من دائرة الهيمنة الاستعمارية وبناء اقتصاد وطني متنوع وقادر على الاستجابة للحاجيات الكبرى لهذه البلدان.

الا ان هذا المشروع سيدخل في أزمة كبيرة منذ بداية الثمانينات. وكانت هذه الأزمة بمثابة اعلان فشل للنظام الاقتصادي الوطني. ويعود هذا الفشل إلى اسباب عديدة لعل اهمها هي حجم المديونية العمومية والتي ادت إلى أزمة عامة فتحت الباب أمام المؤسسات المالية العالمية وخاصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتدخل المباشر في الاختيارات الكبرى للبلدان النامية من خلال برامج التعديل الهيكلي التي فرضتها على اغلب البلدان. وكانت النتائج الاقتصادية لهذه البرامج محدودة وفي نفس الوقت نتائجها الاجتماعية كانت وخيمة. كما كان ضعف مردودية الاستثمارات الكبرى والمؤسسات العمومية سببا من اسباب أزمة هذا المشروع الاقتصادي. فالسياسات الحمائية لم تساهم في بناء تنافسية ومردودية القطاعات الجديدة بل بالعكس لعبت دورا كبيرا في ظهور قطاعات ريعية جديدة لا تنتعش الا في حماية الدولة والقوانين التي تغلق الأسواق وتمنع المنافسة.

فتحت الأزمة العامة للنظام الاقتصادي الوطني والتحولات الاقتصادية الكبرى التي عرفها العالم إلى نظام اقتصادي يمكن أن نسميه بنظام العولمة. سيكون الانخراط في العولمة التي عرفت تطورا كبيرا منذ بداية سبعينات القرن الماضي الهدف الأساسي والرئيسي للسياسات العمومية في اغلب بلدان الجنوب.

وعلى غرار النظام الاقتصاد الوطني يمكننا الإشارة إلى خمس خصائص اساسية لهذا النظام الاقتصادي الجديد والذي سيهيمن على الخيارات الاقتصادية لبلدان العالم الثالث منذ بداية الثمانينات إلى السنوات 2020.

وتهم الخاصية الأولى مواصلة مشروع التحديث الاقتصادي الذي انطلق مع بناء الاقتصاد الوطني. وسيأخذ هذا التحديث الجديد صورة الإصلاحات الاقتصادية الكبرى التي ستنطلق فيها اغلب الدول النامية لتشجيع وتسهيل عملية ومشروع الاندماج في العولمة.

وتتجه الخاصية الثانية لدور الدولة في التنمية الذي وان بقي أساسيا فإنه سيعرف تغييرا جوهريا ليصاحب التحول الذي عرفته الأولويات الجديدة لنظام الانخراط في العولمة. فمن جهة سيعرف دور الدولة المباشر في الاقتصاد تراجعا كبيرا لفائدة السوق والقطاع الخاص. ومن جهة ثانية فإن دور الدولة سيرتكز على المجال التعديلي في مجال القوانين والتشريعات لتسهيل التحول في أسس وبنية الاقتصاديات.

اما الاولوية الثالثة فتهم التراجع عن دور ومركزية الأسواق الداخلية في الاقتصاد ليصبح الانفتاح على الأسواق العالمية وعلى العولمة الهدف الأساسي للسياسات العمومية وللاستثمار.

وتتجه الاولوية الرابعة لهذا النظام الاقتصادي الجديد للتخصص التي ستصبح احد ركائزه والتخلي عن مسالة التنوع التي كانت في قلب النظام الاقتصادي السابق. وسيعتمد التخصص على الميزات التنافسية للبلدان النامية من خلال سياسات جلب الاستثمارات الخارجية او الانخراط في سلاسل القيمة العالمية.

وتعود الخاصية الخامسة الى الإبتعاد عن السياسات الحمائية والتوجه إلى السياسات التحررية في مجال التجارة الخارجية خاصة بعد ظهور منظمة التجارة الدولية إثر الاجتماع الوزاري في مراكش سنة 1994.

ساهمت هذه الخصائص في بناء النظام الاقتصادي الجديد، وكان لانخراط البلدان النامية في مسار العولمة انعكاسات مهمة حيث ساهمت في فترة رفاه تراجعت معها البطالة والفقر.

كما عرفت هذه البلدان فترة نمو بمستويات كبيرة كانت وراء ظهور البلدان الصاعدة ومن ضمنها الصين والهند والتي أصبحت منافسا قويا للبلدان الراسمالية التقليدية.الا ان هذا النظام التنموي الجديد سيعرف أزمات كبيرة بداية من الأزمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009 وَجائحة الكوفيد والازمات المناخية والاجتماعية والتي وضعت العولمة موضع النقد والجدل.

ساهمت هذه الأزمات في فتح النقاش حول نظام اقتصادي جديد اَو ما اسميناه بمشروع رخاء ورفاه جديد (une nouvelle prospérité) والتي شهدت عديد المساهمات على المستوى العالمي.

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هو هل اننا انطلقنا في رحلة البحث عن نظام اقتصادي جديد أم أن تغيير نمط التنمية كان لفتح فترة رخاء ورفاه جديد؟

يتبع....

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115