الأزمات ومخاضات الأمل والمستقبل: نحو سياسات زراعية بديلة (3)

تشكل الازمة الخانقة للقطاع الزراعي في عدد كبير من البلدان النامية

احد اهم التحديات التي تواجهها في السنوات الاخيرة .وقد نزلت الازمة الزراعية بكل ثقلها على الوضع الاقتصادي العام في اغلب البلدان النامية .وكان للتراجع الكبير لنمو القطاع الفلاحي تأثير كبير على متوسط النمو في اغلب بلدان الجنوب كذلك على التوازنات المالية الكبرى وعلى تزايد المديونية .

كانت هذه التطورات والانعكاسات الكبرى لازمة القطاع الفلاحي البلدان النامية مفزعة ومخيفة .فقد عشنا على مدى عقود على اسطورة (mythe) نهاية الزراعة ودخول المجتمعات الحديثة في انظمة اقتصادية جديدة مرتبطة بقطاعات الصناعة والخدمات والتكنولوجيا الحديثة .ومع ازمة القطاع الزراعي اصبح حلم وأسطورة نهاية الزراعة في المجتمعات الحديثة بمثابة الكابوس الذي أرق مضاجع الاقتصاديين والمسؤولين السياسيين .

وكانت هذه الازمات وراء عودة الاهتمام بالقطاع الزراعي في السنوات الاخيرة والذي عاد ليصبح على راس اولويات السياسات العمومية بعد ان اعتبر لعقود طويلة ارثا بعيدا للمجتمعات التقليدية. وقد انطلق الخبراء في المجال الاقتصادي والزراعي، الى جانب المسؤولين على السياسات العمومية والمؤسسات الدولية، في ضبط توجهات جديدة للقطاع الزراعي لضمان إنجاح الاختيارات الزراعية لابد من العودة الى اسباب ازمة هذا القطاع في البلدان النامية لاخذ الدروس والاتعاظ من التجارب السابقة .

إن ازمة القطاع الزراعي في البلدان النامية - في رأيي - تجد جذورها في ثلاثة اسباب اساسية.

1 - فلسفة التحديث وتهميش الزراعة

يكمن السبب الاول لتهميش الزراعة في الاسس الفكرية والفلسفية التي قادت عملية التحديث السياسي والاقتصادي في البلدان النامية، اذ كان الهدف الاساسي لعملية التحديث الخروج من المجتمعات القديمة والمحافظة للانخراط في المجتمعات العصرية . وقد ارتبطت الزراعة في الفكر التحديثي السائد في مرحلة بناء الدولة الوطنية بالمجتمعات التقليدية ليصبح الخروج منها طريق القطع مع هذه المجتمعات وقاطرة الدخول في المجتمعات المتقدمة.

وقد طبعت هذه الخيارات الفكرية اولويات السياسات الاقتصادية وبصفة خاصة في المجال الزراعي، كما عملت هذه السياسات على تحويل فائض الانتاج من الميدان الفلاحي الى القطاع الصناعي ومن الريف الى المدينة . وقد تم تطبيق هذه الخيارات من خلال نظام الاسعار حيث وقع ضبط اسعار ضعيفة للمنتوجات الفلاحية مقابل اسعار مرتفعة للمواد الصناعية .

وقد كانت لهذه السياسات انعكاسات كبيرة على القطاع الزراعي وعلى مستوى العيش في الارياف حيث عرف القطاع تراجعا كبير كما شهدت جموع الفلاحين هبوطا كبيرا في مقدرتها الشرائية وتناميا كبيرا للفقر .

2 - السياسات الفلاحية والأمن الغذائي

الى جانب الفكر التحديثي للدولة الوطنية الذي ساهم في تراجع القطاع الزراعي، كانت للسياسات العمومية والاختيارات الكبرى انعكاسات كبيرة على هذا القطاع .وفي هذا المجال نود التوقف عند التصور السائد في مجال الامن الغذائي .فلئن عملت البلدان المتقدمة على ضمان الامن الغذائي لمواطنيها من خلال توفير المواد والبضائع الاساسية للنظام الغذائي الا ان فهم الامن الغذائي في البلدان النامية كان مختلفا مما ساهم في هشاشة القطاع الزراعي خلال عقود طويلة، ففي اطار العولمة والتقسيم العالمي للعمل عملت السياسات الزراعية في العديد من البلدان النامية على اعطاء الاولية للبضائع والمواد الموجهة للتصدير كالغلال والخضر على حساب الزراعات الموجهة للغذاء والاستهلاك الداخلي كالحبوب .

في ظل هذه السياسات والاختيارات اقتصر الامن الغذائي على توازن الميزان التجاري للمواد الغذائية وكانت لهذا التمشي انعكاسات كبيرة على البلدان النامية حيث ساهم في زيادة تبعيتها للمواد الاساسية التي اصبحت تستورد من الاسواق العالمية .وكانت لهذه التبعية تكلفة مالية كبيرة خاصة مع ارتفاع اسعار هذه المواد الاساسية في الاسواق العالمية .

كما ساهمت هذه الخيارات في تراجع التوازن البيئي لأغلب البلدان النامية وخاصة في ارتفاع الشح المائي لكثرة الماء الذي تستهلكه المواد الفلاحية المصدرة للبلدان المتقدمة من غلال وخضر وقد .ساهم هذا التصور للأمن الغذائي والذي هيمن على السياسات الزراعية في تراجع القطاع وتهميشه مما انعكس سلبيا على التوازنات الاقتصادية الكبرى للبلدان النامية .

3 - التغيير المناخي وأزمة الزراعة

كان للتغيير المناخي انعكاس كبير على ازمة الزراعة في البلدان النامية خاصة، وكان للشح المائي وتقلص الامطار دور كبير في تراجع النمو الفلاحي في اغلب البلدان النامية والتي لم تتمكن من بناء السدود للحفاظ على المياه لتحسين استعمالها .

عاشت البلدان النامية ازمة كبيرة في القطاع الفلاحي في السنوات الاخيرة وامتدت انعكاساتها الى التوازنات المالية الكبرى .ودفعت هذه الازمات اغلب الدول النامية الى اعادة النظر في السياسات الزراعية، لكن هذه التغييرات لن تعطي اكلها اذا لم بصحبها القطع مع النظرة السائدة للقطاع الزراعي في برامج التحديث للدولة الوطنية وبناء علاقة جديدة تعيد للزراعة اهميتها الاقتصادية والسياسية

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115