المسرح بوابة للنقد والتعبير الصارخ عن وجع المواطن واحلام الشباب المسروقة تحت مسميات عديدة، المسرح يتسع لكل الصادقين والباحثين عن واقع افضلن المسرح التزام بقيم المجموعة ونداء متواصل للحرية هكذا هي مسرحية "الوحش فيّا" اخراج محمد البركاتي وانتاج "بيكولو تياترو" ببنزرت التي قدمت في عرض ما قبل الاول بفضاء الحمراء.
"الوحش فيّا" صرخة عميقة ضدّ الانتهاكات الموجهة على احلام الشباب، سردية اخرى لنضال ثقافي يقوده الشبابن من تمثيل حلمي خليفي وحازم بوهلالي وسيف الدين اديب ومساعد مخرج طلال ايوم وسينوغرافيا وملابس امنة الغربي، صمم المعلقة محمد الناصر النفاتي.
السينوغرافيا وأداء الممثل شيفرة للنقد
اضاءة خافتة، الركح خاو من الديكور فقط اريكة صغيرة اقسى اليمين، تدخل الشخصية مضطربة، خائفة، مترددة، تقدم خطوة وتتراجع اثنتين، توتر بدى واضحا تناص مع الاضاءة، الى الجزء الايسر، خيال ابيض طويل، ملامح لجسد الانساني يمسك بتفاحة دون حركة لتكون اوّل الكلمات بين الشخصية الموجودة والوافدة هي "صباح الخير"، تحية بسيطة ستبدأ معها حكاية متشابكة، ينصهر فيها الواقعي بالخيالي، حدّ السؤال هل الشخصية التي تلبس الابيض شخص حقيقي تام هو من صنع خيال الشخصية الثانية الهاربة الى المحطة.
اعتمد المخرج على السينوغرافيا لتعزيز اداء الممثلين، بين الموسيقى والاضاءة واللعب تتضح ملامح الشخصيات، الموسيقى في المسرحية السبيل لقراءة دواخل الشخصيات وأفكارها المختلفة، الاضاءة وسيلة الفصل بين توقيت اللعب ووقت الحكاية، الموسيقى تكاد تصبح شخصية رابعة في الحكاية، فهي قوية حينا تشبه الثورة الداخلية وسط الممثل، الموسيقى بمختلف ايقاعاتها تجتمع في ثنايا الممثل والشخصية، فكلاهما، حالم، انهكه الواقع وأمله الاكبر من محيطه، كلاهما يبحث من مخرج لتكون الايقاعات المتنفّس ومن خلالها تهرب الشخصية الى فضاءات اجمل.
صنعت السينوغرافيا مساحة اضافية ليعلب الممثل بأريحية، كما كانت سبيلا اخر للترميز واسقاطات فنية على الواقع، الشخصية المتخيلة/الحقيقية تترك التفاحة امانة لدى الوافد على المحطة، يغلبه جوع التوحش فيأكل التفاحة، حركة بسيطة تنقلب معها الاحداث، لتصبح الشخصية اكثر وحشية، التفاحة ليست مجرد ثمرة التفاحة رمزية السقوط والخطيئة، التفاحة ترمز الى عدم الحفاظ على الامانة والاختيار بعد اعمال العقل، لتبرز الحركة البسيطة الوحش داخل كلّ منا وما يمكنه ارتكابه اذا استفاق، الوحش له معايير اخلاقية مختلفة، فبعض الجرائم يراها الاخرين افعالا بسيطة ومن هذه التناقضات بنيت الحكاية عملا بمقولة نيتشه "إذا قتلت صرصورًا فأنت بطل، وإذا قتلت فراشة فأنت شرير، الأخلاق لها معايير جمالية" وجميعها شيفرات حوّلها الممثلين الى اليات لعب مسرحي حدّ تناص كل ممثل مع شخصيته وأبدع الثنائي حلمي خليفي وحازم بوهلال في التوغل واستقراء كل شخصية.
السينوغرافيا والمتممات الركحية جزء من لعبة درامية صاغها المخرج الحالم محمد بركاتي وبعد عامين من الانتظار حقق الحلم صحبة الفريق، فالنص مكتوب منذ عامين في انتظار ايجاد تمويل لانتاج المسرحية في ظروف مريحة، ولكن بعد انتظار أنجزت المسرحية بدعم ذاتي وبايمان كبير من الفريق حتى يرى العمل النور وهي اولى العروض المحترفة لـ "بيكولو تياتر" ببنزرت.
المخرج محمد البركاتي وظّف معارفه الفنية ليكون النص رغم بساطته عميقا، واستطاع شد انتباه المتفرّج لجدية الطرح والتزامه بقضايا تهمّ الشباب التونسي وتطرح مشاكله بأسلوب فني على خشبة المسرح.
احلام الشباب المسروقة يعاد رسمها على الخشبة
هل الهروب حلّ؟ هل في ترك المكان والواجب والذهاب الى اللامكان تتحسن الوضعية؟ هل اذا تنازل المواطن عن حقوقه وهرب بعيدا سيحقق ذاته وأحلامه؟ هل المواصلة والتمسك بالحق ضرورة ام يمكن الاستغناء عنها؟ هكذا يطرح السؤال بلسان الشخصية في "الوحش فيّا".
بين التلميح والتصريح تكون احداث المسرحية نص من خيال المخرج لكنه يتماهى مع العديد من القضايا التي يعيشها الانسان في تونس خاصة الشباب، الشخصية الهاربة في المسرحية تمثل جزء كبير من الشباب التونسي خاصة جيل الثورة، شباب عايش شعارات "شغل، حرية، كرامة وطنية" وامن بها.
شباب انخرط في مسار تحرري ينادي بالديمقراطية و الدفاع عن مدنية الدولة، فاعتصم في القصبة وكتب فنانيه شعاراتهم على الجدران وكتبت احلام كبرى تشبه ذاك العصفور الهارب من قفصه في احدى المظاهرات بعيد الثورة.، ليصدم بعودة نفس اليات العمل السياسي والاجتماعي وتزايد البطالة والتهميش، شباب اعتقد انّ يمكنه التحليق في سماء الحرية في وطن جديد فحلّق بعضه الى سوريا والعراق باسم "الجهاد" ورمى فريق اخر بأحلامه الى عرض البحر علّه يجدها في الضفة الاخرى للمتوسط، ورضى فريق ثالث بالوضعية وحاول التأقلم معها وفريق رابع لازال يحلم ومتمسك جديا ليحقق جزء من كينونته في وطنه، جميعهم نماذج لشباب الثورة، لاحلام متقدة عجزت عنها المنظومة الامنية لكنّ المنظومة الاقتصادية الاستغلالية جعلت الكثير منهم يتخلّى عن بعض احلامه وهو ما فعلته الشخصية المحورية في المسرحية.
شاب ثلاثيني، خريج هندسة يعمل منذ ثمانية اعوام في شركة خاصة، ولان للقطاع الخاص اساليبه اللاقانونية للاستنزاف يقرر الحالم تقديم استقالته والذهاب الى محطة القطار علّه "يهجّ" ويجد مكانا اخر يحتضن امتداد احلامه وطموحه المهني والحقوقي، فالشخصية ملتزمة بقضايا الاقليات، مدافعة عن المهمشين، صوت الحالمين لكنّها لم تجد من يكون صوتها وكانت المنظومة الاقتصادية اوّل رصاصة في جسم الاحلام.
تعيش الشخصيات صراعاتها المتواصلة تحاول كل واحدة اثبات جدارتها في المكان والفكرة، تتداخل الحكايات ليكتشف المتفرج انّ احدى الشخصيات ليس واقعا بل فكرة، ربما تكون الحلم او الوحش او الخيبة تجسد امام ضمير احدهم ليكون دليله، وبعد رحلة الصراع النفسي في المحطة المهجورة يقرر الوافد على المحطة العودة الى احلامه ونضالاته ومواصلة مشوار الدفاع عن انسانيته.
المسرح بوابة للنقد، الخشبة كما الاسفنجة تتشرب احلام الممثل وحكاياته وعرقه ودمه وتعيدها في شكل شخوص مبهرة تعبّر عن وجع المتفرج وأحلامه، بين الجمهور والشخصيات المقدمة تناص في اكثر من مشهد، فاغلب الحضور من الشباب، شباب حلم بتونس اجمل، فاصطدم بقسوة الواقع الذي لا يتلاءم مع شرارة الشباب، قصص مستوحاة من الواقع وأخرى من الخيال تنصهر في عمل مسرحي يرشح نقدا ويحفز الذاكرة لتنهض من سباتها وتقاوم خمولها، مسرحية تعتمد الترميز للتعبير عن واقع الشباب وخيبة الامل في بلدهم وواقعهم، وفي الوقت نفسه تدعوه لمزيد المحاولة، فالاستسلام علامة جبن والحقوق لا تهدى بل تفتكّ، فللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدقّ ويمكن لليد ان تضرج بالحلم والعمل ومزيد الايمان انّ للبلد شبابه الذي سيعيد قاطرة الحقيقة والحريات ومدنية الدولة الى سكتها الاصلية.