تقرير البنك الدولي 2025: اقتصاد تونس يواجه تحديات هيكلية وترابط الموانئ مفتاح النهوض

أصدر امس البنك الدولي تقريرا حول الظرف الاقتصادي في تونس تحت عنوان "ترابط أفضل لتحقيق النمو" قدم في قراءة دقيقة لمسار الاقتصاد التونسي،

ووضع خارطة طريق واضحة للفرص والتحديات التي تواجه البلاد في الأمدين القريب والمتوسط، ماذا قال التقرير بالأرقام ؟وما هي التحديات التي تواجه الاقتصاد الوطني؟ وكيفية النهوض به من خلال طرح البنك الدولي ؟

نمو بطيء... لكنه إيجابي

توقع تقرير البنك الدولي ، أن يحقق الاقتصاد التونسي نموًا بنسبة 1.9% خلال سنة 2025، بعد تسجيل 1.4% سنة 2024. وهذا التحسن الطفيف يعود أساسًا إلى عاملين رئيسيين اهمها تحسن نسب هطول الأمطار وهو ما ساهم في ما دعم الإنتاج الفلاحي ، والاستقرار النسبي في بعض القطاعات الحيوية، لا سيما السياحة.

هذه الإشارة إلى النمو الفلاحي تدفعنا إلى التذكير بأن الفلاحة التونسية تُواجه مجموعة من التحديات الهيكلية التي تُعيق تطورها وتُهدد استدامتها، مما يؤثر سلبًا على الأمن الغذائي والاقتصاد الوطني. من أبرز هذه التحديات تفتت الملكيات الزراعية، حيث يستغل حوالي 85% من الفلاحين مساحات تقل عن هكتار واحد، مما يُقلل من الجدوى الاقتصادية للأنشطة الفلاحية ويُعيق تحقيق الاستثمارات اللازمة لتحديث القطاع. كما يُعاني القطاع من ضعف البنية التحتية، خاصة في مجالات التخزين والتوزيع، مما قد يؤدي إلى خسائر كبيرة خلال فترات ذروة الإنتاج خاصة الحليب ومشتقاته . بالإضافة إلى ذلك، يُواجه الفلاحون صعوبات في الحصول على التمويلات اللازمة بسبب تراكم المديونية، حيث أُدرج حوالي 70 ألف فلاح في القائمة السوداء، للبنوك حُرموا من القروض الضرورية لتطوير أنشطتهم.
تُضاف إلى هذه الصعوبات التحديات البيئية، مثل نقص الموارد المائية، وتفاقم ظاهرة التصحر، وارتفاع نسبة ملوحة التربة، مما يُؤثر سلبًا على الإنتاج الفلاحي. هذه التحديات تعمقها غياب سياسة فلاحية متكاملة تُراعي خصوصيات المناطق المختلفة وتُعزز من قدرات الفلاحين، مما يُؤدي إلى حلول ترقيعية لا تُعالج المشاكل من جذورها.

تحديات سياحية

اذا ما تاملنا في الواقع السياحي في البلاد فاننا نلاحظ ان القطاع يواجه تحديات هيكلية متعددة تُعيق امكانية التطور ، وتؤثر سلبًا على الاقتصاد الوطني، أبرزها الاعتماد المفرط على السياحة الشاطئية، مما يجعل عرضة للتقلبات الموسمية والظروف المناخية. كما يُعاني القطاع من تقادم البنية التحتية السياحية، حيث أن العديد من المنشآت السياحية بحاجة إلى تحديث وتطوير لتلبية متطلبات السياح الحديثة. بالإضافة إلى ذلك، يُشكل نظام الإقامة الشاملة (All Inclusive) تحديًا آخر، حيث يُقلل من استفادة المجتمعات المحلية من الإنفاق السياحي، إذ يُفضل السياح البقاء داخل الفنادق والاستفادة من الخدمات المتوفرة، مما يُؤثر سلبًا على المطاعم والمتاجر المحلية.

تُضاف إلى هذه التحديات الصعوبات المالية التي تُواجهها العديد من المؤسسات السياحية، حيث أُغلقت حوالي 203 مؤسسة سياحية، مما يُمثل 24% من إجمالي المنشآت السياحية في البلاد، وذلك بسبب مشكلات مالية وإفلاسات، بالإضافة إلى الإغلاقات الموسمية والقرارات الإدارية والقضائية التي تؤثر سلبًا على استمرارية الأعمال في القطاع. كما أن السياحة الصحراوية، التي تُعد من المقومات السياحية الفريدة في تونس، تُواجه تحديات كبيرة، منها نقص الترويج، ضعف البنية التحتية، وغياب الاستثمارات اللازمة لتطوير هذا النوع من السياحة.
وبينما لا تزال الصناعات التحويلية تئن تحت وطأة التحديات المرتبطة بسلاسل التوريد وضعف الطلب، فإن الاقتصاد التونسي أظهر قدرًا من "المرونة" في مواجهة الصدمات، وفق ما وصفه تقرير البنك الدولي .
لكن على الرغم من هذا التحسن، تبقى نسبة النمو غير كافية لإحداث أثر نوعي في مؤشرات البطالة أو لتقليص الفوارق الجهوية أو تحسين جودة الحياة، وهي تحديات هيكلية لطالما وُصفت بـ"المزمنة".

آفاق متوسطة الأجل محدودة

يتوقع البنك الدولي أن يتراوح معدل النمو في تونس بين 1.6% و1.7% خلال سنتي 2026 و2027. وتظل هذه التوقعات مرهونة بعدة عوامل، أبرزها استمرار التحديات العالمية، من تقلبات أسعار السلع، إلى تباطؤ التجارة الدولية، مرورا بندرة التمويلات الخارجية.
غير أن التقرير يفتح نافذة أمل مشروطة بتحسن مناخ الأعمال وتقدم الإصلاحات، خاصة تلك المتعلقة بترشيد الدعم، وتحسين الحوكمة، وتطوير مناخ الاستثمار. وإذا ما تم تخفيف منسوب الغموض السياسي، واستعادت الدولة بعضا من الثقة المفقودة مع المستثمرين، فإن هذه الأرقام قد تكون قابلة للتحسن.

تراجع التضخم واستجابة نقدية محسوبة

رصد تقرير البنك الدولي عدة مؤشرات ايجابية ،لعل ابرزها تراجع التضخم إلى 5.6% في شهر أفريل 2025، وهو أدنى مستوى له منذ سنة 2021، ويقترب من معدلات ما قبل الجائحة. ورغم أن معدل تضخم المواد الغذائية لا يزال مرتفعًا نسبيًا عند 7.3%، إلا أن هذا التراجع الكلي للتضخم سمح للبنك المركزي التونسي باتخاذ خطوة غير مسبوقة منذ أكثر من عامين، وهي خفض سعر الفائدة الأساسي إلى 7.5%. هذه الخطوة تُعتبر مؤشرا على تحسن نسبي في المؤشرات النقدية، لكنها تستوجب متابعة دقيقة لتفادي أية ضغوط تضخمية مستقبلية، خاصة في ظل ضعف الإنتاج المحلي وارتفاع كلفة التوريد.

تحسن نسبي في المالية العمومية والحساب الجاري

أبرز التقرير انخفاض العجز في الحساب الجاري إلى 1.7% من الناتج المحلي سنة 2024، وهو تحسن يُعزى أساسًا إلى انتعاش عائدات السياحة وتحسن شروط التبادل التجاري. لكن هذه المكاسب لا تخفي تحديات قائمة، أهمها اتساع العجز التجاري مجددًا في بداية 2025، مدفوعًا بزيادة واردات الطاقة وتراجع نسبي في الصادرات.
ونشير في هذا السياق الى ان تونس شهدت مؤخرا ارتفاعًا ملحوظًا في واردات الطاقة، نتيجة لتراجع الإنتاج المحلي وزيادة الطلب، مما أدى إلى تفاقم العجز في الميزان الطاقي، حيث انخفض إنتاج الغاز التجاري الجاف بنسبة 2% حتى نهاية مارس 2025 مقارنة بنفس الفترة من عام 2024، بسبب استمرار انخفاض إنتاج الحقول الرئيسية وعدم تنفيذ مشاريع حفر أو اكتشافات جديدة.
علاوة على ارتفاع الطلب على الغاز الطبيعي بنسبة 4% حتى نهاية مارس 2025 مقارنة بالعام السابق، خاصة في قطاع إنتاج الكهرباء الذي يمثل حوالي 62% من إجمالي الطلب، وارتفاع واردات الغاز الجزائري ب 14% حتى نهاية مارس 2025، لتصل إلى 643 ألف طن مكافئ نفط، مما يعكس الاعتماد المتزايد على الاستيراد لتلبية الطلب المحلي.
بالإضافة إلى تراجع إنتاج النفط والغاز، حيث لم يتم حفر أي آبار تطوير خلال الأشهر التسعة الأولى من سنة 2024، مما أدى إلى زيادة الاعتماد على الواردات لتغطية الاحتياجات المحلية.
كل هذه الاسباب ساهمت في ارتفاع عجز الميزان التجاري الطاقي بنسبة 10% حتى نهاية فيفري 2025 مقارنة بنفس الفترة من سنة 2024، ليصل إلى 2060 مليون دينار.
و تضاعفت حاجيات الدعم الطاقي خلال عام 2024، حيث بلغت 6.7 مليار دينار، نتيجة لارتفاع أسعار الطاقة في السوق العالمية وزيادة تكاليف الاستيراد.

تأثيرات على الميزانية العامة

أدى ارتفاع تكاليف الدعم إلى زيادة الضغط على الموارد المالية للدولة، مما قد يؤدي إلى اتخاذ إجراءات تقشفية أو زيادة الضرائب، ويؤثر على القدرة الشرائية للمواطنين.
لقد أدى الاعتماد المتزايد على الواردات إلى تقليل نسبة استقلالية قطاع الطاقة، حيث استقرت في حدود 45% حتى نهاية ماي 2024، مقابل 52% خلال نفس الفترة من عام 2023.

أما على مستوى المالية العمومية،فقد انخفض العجز إلى 5.8%، بفضل احتواء النفقات العمومية واستقرار الدعم. إلا أن هذا التحسن يظل هشا إذا لم يُدعّم بإصلاحات هيكلية تقلل من كلفة الأجور والدعم وتحسن تعبئة الموارد الذاتية.

ترابط الموانئ

ركز تقرير البنك الدولي خاصة على مسألة الترابط التجاري، في فقرة أسماها "الفرصة الضائعة" في منظومة الموانئ التونسية. فبينما تُعتبر تونس بوابة طبيعية بين ضفتي المتوسط، إلا أن أداء موانئها لا يعكس هذا الموقع الاستراتيجي. تعاني الموانئ من ضعف البنية التحتية، بطء الإجراءات الجمركية، وتدني كفاءة الربط اللوجستي، مما يطيل أوقات الشحن والتفريغ، ويضعف جاذبية البلاد كمركز لوجستي.
وتُظهر التقديرات الجديدة أن مجرد تحسين ترابط الموانئ وتقليص أوقات الانتظار يمكن أن يرفع الناتج المحلي بنسبة 4 إلى 5% خلال 3 إلى 4 سنوات. كما أن اللحاق بمستوى البلدان النظيرة مثل المغرب أو تركيا قد يضيف 2.6 إلى 3.5% أخرى، فيما يمكن للإصلاحات المؤسساتية – في الجمارك والخدمات اللوجستية – أن توفر مكاسب إضافية تتجاوز 1%.

ويؤكد ألكسندر أروبيو، مدير مكتب البنك الدولي في تونس، أن تحسين الترابط اللوجستي في الموانئ "يمكن أن يكون محركًا قويًا لخلق فرص العمل وتحفيز النمو"، مشددًا على أن الاستثمار في البنية التحتية لا يكفي، بل يجب أن يُرافق بإصلاح إداري وهيكلي عميق.

تونس كمركز شحن عابر

يمضي التقرير أبعد من ذلك، مشيرًا إلى أن تحويل تونس إلى مركز للشحن العابر (transit hub) يمكن أن يحقق مكاسب ضخمة تتراوح بين 11 و14% من الناتج المحلي. وهو ما يتطلب مزيجًا من الاستثمارات في المحطات والمعدات، وتحديث الأنظمة الرقمية، وربط الموانئ بشبكة السكك الحديدية والطرق. كما أوصى التقرير بمراجعة تعريفات الموانئ لتكون أكثر جاذبية، ما يساهم في تحسين التنافسية الإقليمية.
الفرص الضائعة

يلخّص التقرير وضع تونس بأنه مزيج من الفرص الضائعة والإمكانات غير المستغلة. فالنمو بطيء، لكن قابل للتحسن. فالتضخم تحت السيطرة، لكن الاقتصاد ما زال هشًا، والقطاع اللوجستي يمثل فرصة ذهبية، إذا ما أُحسن استغلالها.
يبقى الرهان الحقيقي على سرعة الإصلاح، واستقرار الرؤية، واستعادة الثقة. فبدونها، ستظل تونس تدور في حلقة مفرغة من التعافي الهش والنمو المحدود.

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115