بورتريه الفنانة التشكيلية العصامية زينب الهلالي: جمال مذهل يغازل جبل سمّامة

في زحمة الحياة، لا تريد زينب الهلالي أن تكون أيامها متشابهة بلا شغف وأن تكون خطاها بلا وقع كعابرة سبيل بلا أثر !

فاختارت، وربما اصطفاها القدر الجميل لتكون فنانة عصامية التكوين والأسلوب والرحلة. هي فنانة لم تلقّنها المدراس تاريخ الفنون وتياراتها وأعلامها بل علّمتها الطبيعة اقتناص لحظة الجمال ما بين نور الشمس وظلال الغروب. في الطبيعة ومنها وإليها، تخلق زينب الهلالي عالما فنيا متفردا بلهفة إحساس مرهف قد تلهمه زهرة تنبت بين مفاصل الصخور، ورقصة الشجر تحت المطر، وطفلة تلاحق فراشة، وسيمفونية العصافير عند العودة إلى أعشاشها... وتلك هي حياتها !

من جُبِل على حب الجبل وترعرع بين كبريائه وعليائه، يصعب عليه أن يترك سكناه وأرضه حتى وإن زرعوه بالألغام وتسلل إليه خفافيش الظلام. وفي منطقة سمّامة من ولاية القصرين، تزوّد زينب الهلالي جبلها بالضحكات والأغنيات والفزّاعات التي لا تخيف الطيور بل تربّت على كتف الحياة !

ولادة حياة جديدة مع تأسيس المركز الثقافي بسمامة

لا ترسم زينب الهلالي للشهرة والأضواء بل حسبها أن تلبّى نداء النفس التوّاقة إلى الجمال في إبداع رسوم وفزّاعات وعرائس حلفاء ... علّمت نفسها بنفسها كيف يمكن أن تكون فنانة عصامية دون مدارس ولا دورات ولا تدريبات بل هي تخوض ما بين الحقل والجبل رحلة فنية وإنسانية استثنائية.
ليست إبداعات زينب الهلالي مجرد تركيبات لونية، بل تمثلات حسية تغرق الناظر في كون صاخب من الانطباعات والإسقاطات والتأويلات... وقد لا يجوز أن نسأل "زينب" عن أسرار فنّها فلعل فطرة موهبتها تتجاوز محاولة صياغة الإجابة. تكتفي زينب بوصف علاقتها بالرسم بأنها "تتجاوز "الغرام" لتصبح جنونا يطوّق روحها وإحساسها وكل أوقاتها فحتّى إن لم تجد ورقا ترسم فوقه فإنها ترسم فوق التراب !"
قد لا يحتاج الفنّ إلى درس عندما يتحول العمل الفني إلى همسة أو ورجفة أو أمنية أو رسالة تترجم ما تعجز عن قوله الكلمات. تقول زينب الهلالي " منذ الطفولة شبّ في نفسي عشق الفرشاة ووجدت في الرسم عالما أرحب وأجمل للتعبير والبوح والاحتفاء بقيم الجمال وثقافة الحياة."
غادرت زينب الهلالي مقاعد الدراسة لكنها لم تتخل عن شغفها الفني وبقيت ترسم حتى ترتسم الدنيا في عيونها ألوانا وأضواء ووعدا جديدا... وبالرغم بأن الانضمام إلى دور الثقافة كان حلما بعيدا بالنسبة إليها، فإنّ تأسيس المركز الثقافي الجبلي للفنون والحرف بسمامة في سنة 2018 كانت منعرجا مفصليا في مسيرتها ونقطة تحوّل كبرى في حياتها . من بوابة هذا المركز، وضعت زينب الهلالي الخطوات الأولى على عتبة الفن من بابه الواسع ليتردد اسمها في كل فصل وفي كل موسم وفي كل عيد رعاة وغيرها من التظاهرات المتفردة التي يبتكرها المركز الثقافي بسمامة.
ولأنها تعشق التجديد، سواء في لوحاتها أو في حياتها فقد وجدت زينب في المركز الثقافي بسمامة حاضنة لإبداعاتها ومختبرا حيّا لأعمالها الفنية... فتقول: " أنا مدينة للفنان والناشط الثقافي عدنان الهلالي الذي أصر على تحقيق الحلم الكبير وتأسيس المركز الثقافي الجبلي بسمامة. وأنا ومثلي الكثير من سكان سمّامة كنا محرومين من الالتحاق حتى بدور الثقافة فإذا بهذا المركز يأتي لنا بالفنون من مختلف ثقافات العالم ويحتضن المشاريع الفنية والحرفية لأبناء الجهة في تثمين لتراث غير مادي عصيّ عن التقليد طالما أن الجدّات تحرسنه والحفيدات أمينات على هذه الحرفة والوصية. "

فن صديق للبيئة

تتلاعب زينب الهلالي بالضوء والظل وخيوط القماش والحلفاء ... لتبدع فنّا يلامس في خياله الواسع عنان السماء. ولأنّ منطق الفلسفة يقّر بأنه لا شيء ثابت وكل شيء في تحوّل دائم، فإنّ "زينب"، صديقة الغيمات وحارسة الغابات يزعجها مشهد مهملات تخنق أنفاس العشب، فتسارع إلى جمعها وإعادة تدويرها في تحف فنية حيث لا تخلق الجمال من المهمل سوى أياد مبدعة وقدرة فائقة على الابتكار والتحويل والرسكلة. وهي ابنة الطبيعة و"الراڤوبة"، تتبّع زينب الهلالي منهج الفن الصديق للبيئة التزاما وإيمانا و ليس اتباعا لموجة مجاراة العالم في الاهتمام بقضايا المناخ وأضرار تراكم النفايات.

لا تضيع زينب الوقت في انتظار مواد أولية قد تأتي وقد تتأخر في الوصول ، بل تستنجد بالطبيعة المعطاء للتزود بخامات وبمواد لا يهم كيف كانت بل الأهم كيف ستصبح؟ هي أنامل زينب الهلالي التي نفخت روح الحياة في فزّاعات وتشكيلات تضفي إطلالة بهجة و حيوية على المركز الثقافي الجبلي بسمّامة ومحيطه في مؤانسة للضيوف والزوار و إلهام للفنانين الذي أغرتهم تجربة زينب الهلالي وآسرتهم شخصيتها العفوية، الودودة فأصبح لها أصدقاء من كل أنحاء العالم.
في السنة الفارطة وبمناسبة الدورة الــ 12 لــ "عيد الرعاة"، استضاف مدير "المركز الثقافي الجبلي" عدنان الهلالي الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي تضامنا وتكريما لها بعد إلغاء "معرض فرانكفورت للكتاب" تكريم شبلي عن روايتها "تفصيل ثانوي". وفي سمامة، أعادت زينب الهلالي لعدنية شبلي ذكريات الطفولة وحنين ناي الرعاة بين أنين وشجن. فهذه الكاتبة المرموقة اليوم بدأت علاقتها بالأدب عندما انغمست في المطالعة عندما كانت طفلة صغيرة ترعى الغنم في سهول شمال فلسطين. فرافقت راعية الجليل عدنية شبلي راعية سمامة زينب الهلالي في مشوار رعي الغنم ليكون بينهما الحوار تلقائيا وعفويا عن دور مدرسة الطبيعة في إلهام الوجدان بالفنون وبجينات الإبداع المتمرد والمنفلت من كل القيود والحدود.
لم تثر شخصية زينب الهلالي وإبداعاتها الفنية فضول الفلسطينية عدنية شبلي وإعجاب عشرات العشرات من أصدقاء الجبل ومن ضيوف المركز الثقافي بسمامة ، بل مثّلت موضوعا رئيسيا وشخصية محورية في الفيلم الوثائقي القصير "فزّاعات المنطقة الحمراء" للمخرج جلال الفايزي. على شاشة هذا الفيلم ، كانت زينب طاقة فن وجمال تفيض على المكان بمنتهى السخاء لتمنح الحياة إلى الجبل ، جبل سمامة.

فنانة ملهمة للأدب وللسينما

إن كان الرسم هو عشقها الأول والرسكلة هي قدرها الثاني فإنّ الحلفاء هي مشروعها الإبداعي الثالث. فمرّة أخرى وقريبا ستتجلى سمامة كعروس للحلفاء بعرائس حلفاء خاصة بها وذات خصوصية وطنية وربما عالمية.

بكثير من البساطة وبضحكة تفاؤل تسبق كلماتها لا تطلب زينب الهلالي الكثير بل أحلامها بسيطة لا تتطلب سوى الدعم المادي والمعنوي و فتح أبواب الفضاءات وقنوات التسويق والترويج أمامها وأمام كل فنات الطبيعة وحرفيات الجبال والأرياف وأعماق تونس.

زينب الهلالي ليست مجرد فنانة تشكيلية عصامية، بل هي حكواتية تنسج خيوط فزاعات وحكايات لا تنتهي، وهي موسيقية تعزف نوتاتها بضربات الفرشاة ما بين مد وجزر، وهي سفيرة للطبيعة تجيد التفاوض وإدارة الحوار بين الواقع والخيال، بين الهدوء والعاصفة، بين الوضوح والغموض... ولعلّ هذا ما يجعلها تأسر كل من يتعّرف على تجربتها، كل من يقترب من مداراتها، كل من يرى بعيونها سمّامة الملهمة، المذهلة !

 

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115