في فيلم "بسكويت" لشادية خذير: المرأة العاملة... أحلام متمردة وأجنحة متكسرة !

لا يهم المكان ولا الزمان، فكثيرا ما تشبه النساء في يومياته الشاقة صورة "المرأة الأخطبوط" ذات الأذرع الثمانية

المطالبة بأكثر من مهمة داخل المنزل وخارجه!

في كل الوظائف والمواقع والأدوار، يحرّض الطموح المرأة لتحقيق الذات وترك بصمة وأثر ما ... لكن هذه الأحلام المشروعة كثيرا ما تتحوّل إلى أمنيات مؤجلة ورغبات يائسة!

في بطولة نسائية ومن إنتاج "جمعية لينا بن مهني" وفي إطار الدورة الثانية لمهرجان 20/27، قدّمت الصحفية والمخرجة شادية خذير فيلمها الوثائقي القصير "بسكويت" الذي يقترح أسلوبا طريفا يجمع بين سينما التحريك والأرشيف وشخصيات وفضاءات في شكل مجسمات كرتونية صغيرة.

إستراتيجية الزرافة للتخلص من التوتر

يتوسط معلقة فيلم "بسكويت" وجه زرافة بنظرات بريئة، ترتدي نظارة طبية بإطار برتقالي اللون تقضم قطعة بسكويت أو بالأحرى نصف قطعة فقد يستكثر عليها البعض التمتع بقطعة كاملة ؟ أو قد تؤثر هي على نفسها الآخرين بنصف هذه "الغنيمة"؟
قد يبدو فيلم "بسكويت" في ظاهره انطلاقا من معلقته حافلا بأجواء مرحة أو حاملا لمناخات طفولية لكن بعد الفرجة يتبدد لغز المعلقة وينكشف سر الزرافة وأحجية البسكويت . قد يبدو سؤال لو كنت حيوانا ماذا كنت ستختار؟ ضربا ن ضروب الدعابة ! وقد يستعين علم النفس بسؤال ما هو حيوانك المفضل ؟ من أجل تحليل الشخصية ! أما شادية خذير فلم تفكر كثيرا. واختارت أن تكون مثل الزرافة ليس لأنها طويلة أو لأنها تكتفي بقليل من الماء أو لأنها لا تنام كثيرا بل لأنها قادرة على مجاراة القلق و على المرونة في التخلص من مشاعر التوتر. قد تلتقي مقاربة شادية خذير مع نظرية "جيمس كلير" الكاتب والمتخصِص في علم السلوك والتطوير الشخصي الذي دعانا أن نعيش بإستراتيجية الزرافة في إدارك أنّ احتمالية حدوث الأشياء المزعجة تمنع إمكانية عيش اللحظة المستقرة بسلام وتفسد متعة الحياة.
وهي التي علمتها الصحافة الإيجاز والدقة و الترتيب التفاضلي وفق قاعدة الهرم المقلوب من الأهم إلى المهم إلى الأقل أهمية، دخلت شادية خذير مباشرة منذ المشهد الأول في صلب الموضوع . فليس سوى "بسكويت" سوى شذرات من سيرة ذاتية ومسيرة مهنية لصحفية مؤسسة التلفزة الوطنية شادية خذير. هي سيرة تتجاوز الذاتي لتتقاطع مع الموضوعي ومع قضايا النساء دون استثناء.

هل مازال العمر يتسع لـ"شدو الحياة" ؟

في رجوع إلى ماض بعيد ، اختارت شادية خذير موسيقى الفنان "حميد الشاعري" الذي كان من نجوم أغنية التسعينات لترافق سردها لقصة التحاقها بإذاعة الشباب سنة 1994 من خلال مناظرة ومحادثة مع ثلاثة رجال. لا تتذكر شادية أسمائهم أو ربما لم تشأ أن تذكر من هم، بل كل ما تتذكره هو أن أحدهم سألها ماذا تعرف عن اليوم العالمي لحقوق الإنسان؟ واليوم نسيت شادية كيف كان جوابها على هذا السؤال لكنها بقيت تحتفظ في ذاكرتها وملء حواسها برائحة الخشب في أستوديو الإذاعة الذي كان حديث البناء. كانت رائحة الأستوديو في أنف شادية تشبه رائحة البسكويت الزكيّة عند خروجها من فرن الطبخ !
أول مصافحة لصوت شادية لجمهور الإذاعة كانت عبر البرنامج الصباحي "شدو الحياة". وبعد شدو شادية أمام المصدح لسنتين التحقت بقسم الأخبار بمؤسسة التلفزة التونسية.
بعد ثلاثين سنة من العمل ، تقف شادية خذير في فيلمها "بسكويت" على أطلال أحلام وردية وعلى أعتاب تقاعد قد يأتي مبكرا وقد يتأخر. لكن في كلتي الحالتين لم تكن المكاسب بحجم الأحلام والتضحيات. فعندما تقف هذه الصحفية أمام الموزع الآلي عسى أن تعثر على بقايا أجرة والشهر لم ينته بعد، وحده صوت "أم كلثوم" يترجم هشاشة الوضع الاقتصادي عندما يصرخ بآهات يائسة: " إيه العمل، ما تقولي اعمل إيه؟".

ملاحم نسائية تهزمها "تاء التأنيث"

حتى لا تنسى هي ولا ننسى نحن، ولأنّ الذاكرة تموت بالإهمال وتحيا بالتوثيق، بعثت شادية خذير فمن خلال فيلم "بسكويت" بتحية وفاء إلى روح زميلها وصديقها الصحفي الراحل جميل الدخلاوي كروان الوثائقيات وصوت الكمان بمؤسسة التلفزة التونسية، كما أضاءت عبر إشارات خاطفة على محطات وأحداث مفصلية واستثنائية في تونس ما بعد الثورة.
لا يروي فيلم "بسكويت" حكاية صُحفية أو امرأة عاملة، بل يسرد ملاحم نسائية سواء في المكاتب أو المصانع أو الحقول ، هي مظالم تُكتب على هامش السلم الوظيفي لتكون خارج حساب الترقيات بسبب "تاء التأنيث". وإن كانت "تاء التأنيث" في اللغة "لا محل لها من الإعراب" فإنّ هذه "التاء" كثيرا ما تقف عائقا أمام المرأة ومن منظور منطق العقلية الذكورية للعب أدوار البطولة والقيادة رغم المثابرة والجدارة.
في ردهات الإذاعة أو التلفزة أو قاعات الأخبار، لم تكن يوميات "شادية" وصديقاتها "عزيزة" و"فريال" و"صابرة" سوى دوّامة لا تنتهي من المهمات ومن الواجبات وإجراء بروتوكولي يعبّد الطريق لرئيس العمل القادم، والذي طبعا سيكون رجلا !
بمنتهى المرارة وسخرية الأقدار، تؤكد المخرجة شادية خذير كيف أنّ النساء تصبحن "نساء ونصف" و"حراير تونس" عندما يتعلق الأمر بالعمل الدؤوب والجهد الجهيد. أما عند توزيع المناصب يتم استبعاد المرأة بعقلية "العجلة خامسة" التي لا تصلح للظهور والبروز في الصفوف الأمامية.
في فيلم "بسكويت" يجوز تشبيه المرأة بالبسكويت الذي يكون شهيا ومرغوبا عندما يكون طازجا ثم يصبح منبوذا بمجرد أن تصيبه الرطوبة فيصبح شديد الهشاشة وأكثر قابلية للكسر!







المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115