وترتقي بروحها إلى سماء الوجد/ الإله... وما بين أرض وسماء خلقت مسرحية "رقصة سماء" الفرجة وأهدت جمهورها المتعة. إنّ الدوران هو أساس الوجود حيث كل شيء في هذا الكون يدور ... وبدورها تدور "رقصة سماء" حول نفسها في شكل رقصة الدراويش أو رسم المنمنمات الفارسية أو بنية الخرافة والأسطورة... من البداية إلى النهاية، كان الحب هو البوصلة في "رقصة سماء" كما كان العشق ورد المتصوفة وذكرهم ومذهب حياتهم...
ضمن باقة إنتاجات موسمه الجديد، قدمّ المسرح الوطني التونسي، مؤخرا، العرض الأول لمسرحية "رقصة سماء" عن نصّ وإخراج وسينوغرافيا الطاهر عيسى بن العربي وإنتاج المسرح الوطني التونسي بالشراكة مع المركز الوطني للفنون الدرامية والركحية بالكاف والمركز الوطني للفنون الدرامية والركحية بزغوان.
الأدب همزة وصل بين القرن 21 والقرن 13
"لا قيمة للحياة من دون عشق. لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده، روحي أم مادي، إلهي أم دنيوي، غربي أم شرقي .. فالانقسامات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات. ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف. إنه كما هو نقي وبسيط. العشق ماء الحياة، والعشيق هو روح من نار! يصبح الكون مختلفا عندما تعشق النار الماء". كانت هذه القاعدة الأخيرة ورقم 40 في "قواعد العشق الأربعون" هي جوهر المعنى الذي تدور حوله مسرحية "رقصة سماء" كما تدور الكواكب حول الشمس، كما يدور الدراويش حول أنفسهم في رقصهم الصوفي.
وقبل المشاهدة يحيلنا العنوان "رقصة سماء" إلى الرقصة التي ابتدعها جلال الدين الرومى بإلهام من شمس التبريزى فانتشرت في المذهب الصوفي تحت اسم "سما" أو "المولوية". كان هذا العنوان الشاعري جذّابا كالطعم لاكتشاف ما الذي يمكن أن تحدّث به "رقصة سماء" جمهورها الذي جلس كالمريدين أمام ركحها في رحلة صوفية وفسحة روحية تأسر الإحساس والحواس.
في فلك العشق، تراقص "رقصة سماء" جمهورها على إيقاع الحياة في مرواحة بين عالمين وحكايتين: عالم "هالة" في القرن الحادي والعشرين وعالم "شمس الدين التبريزي" في القرن 13 وما بينهما يكرر التاريخ نفسه وتتشابه مآسي المجاعات والحروب وملحمة الإنسان في نحت الكيان.
بكثير من الطرافة والذكاء فتح المؤلف والمخرج طاهر عيسى بن العربي جسرا بين هذين العالمين المتباعدين في الزمان وفي المكان. كان الكتاب هو النافذة المفتوحة للقفز بين عصرين مختلفين بمنتهى الرشاقة الجمالية والفكرية. هي قصة امرأة من عصرنا تعاني من روتين اليوميات وضغط المشاكل الأسرية فتنغمس في المطالعة هربا من الواقع... تتعثّر "هالة" بالحب صدفة بفضل رواية لكاتب مغمور يدعى "عزيز زهرة" يتحدّث فيها عن العشق الصوفي عند الرومي والتبريزي... تنجذب "هالة" إلى أسلوب "عزيز" الساحر والآسر في الكتابة فتنجرف في حبّه بلا هوادة... وحده الموت تمكّن من التفريق بين الحبيبين ومن وضع نقطة النهاية لقصة حب مجنونة !
مناخات صوفية... وأسلوب سينمائي
يصعب تحديد الحب في معنى واحد أو بعد وحيد، وهو الذي اتخذ عند العرب 60 اسما ووضع له المتصوفة 40 قاعدة للعشق... ولأنّ مسرحية "رقصة سماء" ترقص في سياق هذه المدارات ما بين أرض وسماء، فإنّها كانت في توهج انطلاقها وفي أوج انعتاقها أكبر من التصنيف في تيار فني معيّن أو نمط مسرحي محدد. على خشبة المسرح يحضر الفن السابع بقوة من خلال توظيف أسلوب سينمائي مشوق وجذّاب. ولا شك أنّ جمع المخرج الطاهر عيسى بن العربي بين دراسة المسرح ودراسة السينما قد خدم هذا التوجه الفني والجمالي.
في مشاهدها الأولى تصافح "رقصة سماء" جمهورها بيد تلبس قفاز "مسرح الفودفيل" في شعبيته وهزله ونقده الساخر ثم لا تلبث أن تتلوّن بأكثر من لون وأن تلبس أكثر من ثوب في تحوّل وتبدّل في براعة الحرباء من وضعية درامية إلى أخرى. في مراوحة بين سمات القرن الحالي، الآن وهنا وملامح القرن 13 عبر اقتفاء أثر أقطاب المتصوفة وخاصة "التبريزي". يعتمد العرض على تقنية البث الجزئي لتجسد المسطحات الديكورية تفاصيل المكان بين الماضي البعيد والحاضر القريب. في توظيف لسينوغرافيا تستفز الجمهور للانغماس الفكري والروحي في العالمين المتباعدين زمانيا ومكانيا، تطير "رقصة سماء" بجمهورها بأجنحة من الخيال إلى مناخات شاعرية وأجواء صوفية تهدهدها كالحلم الموسيقى الروحانية في خلق لفرجة ممتعة ومغايرة ومغامرة في شكلها وفي مقصدها.
في تجسيد لحكايات عائلية غير متصالحة ولشبكة علاقات هشة، نجح الممثلون في إقناع الجمهور وفي تقمص الأدوار المعقدة والمركبة بكثير من الاقتناع ومن الانغماس في عوالم الشخصيات ... فصفق الحضور لأداء منى نورالدين وهاجر حمودة وخالد الزيدي ولزهر الفرحاني وعبد الكريم البناني وشيماء الزعزاع وحمزة الورتتاني ومنير الخزري وإيمان المناعي وآمنة المهبولي.
نوافذ على مسارح شرق آسيا
في "رقصة سماء" أكد المخرج طاهر عيسى بن العربي أنه لا يكرّر نفسه ولا يعيد اجترار مذهبه المسرحي بل هو دائم البحث عن جماليات وعن ثقافات وعن كلمات لم تقل على الركح. ينطلق العرض في شكل ورشة تطبيقية في الكتابة والتصوير والتمثيل، لتتولد الحوارات بين الشخصيات من وحي اللحظة ومن خيال اللاعبين فوق الخشبة. وعند الحد الفاصل بين صلاحيات كل مهنة فنية وبين الحق في التدخل بالتعديل أو إبداء الرأي يتسع المجال لبعث برقيات خاطفة ورسائل ناقدة لواقع الفنان في تونس ولمفهوم مسرح ما بعد الدراما ولدور المثقف في المجتمعات المعاصرة... وغيرها من المسائل حيث تبدو الأسئلة أهم من الأجوبة !
في تعامله مع التراث الصوفي واستحضاره لأهم أقطاب المتصوفة، لم يكتف المخرج وصاحب النص طاهر عيسى بن العربي بمجرد النقل بل كان ركحه مخبرا للتجريب وللمغامرة في استدعاء ثقافات أخرى وفي توظيف تجارب مسرحية من شرق آسيا وهو الذي سبق له التكوين في مسرح النو الياباني". تبدو مسرحية "رقصة سماء" وكأنها منشطرة إلى جزئين : الأول مادي ومحسوس ودنيوي والثاني روحي وصوفي وميتافيزيقي ... وفي حركة الدوران حول خشبتها وشخصياتها، تتساءل "رقصة سماء" عن مكانة الروحانيات في هذا العصر الرقمي الذي تحوّل فيه الإنسان إلى مجرد رقم وآلة بلا إحساس. وحده الحب يستطيع تغيير الأقدار وتصحيح المسار للخروج من دوامة الفراغ والعجز والشك...
وفي نهاية المطاف وبعد طول طواف حول أكثر من مبنى وأكثر من معنى، كانت "رقصة سماء" رحلة تطهير للجسد وللروح وللفكر !