حيث برزت قضايا الإرهاب كلاعب مركزي في صياغة ملامح هذه المرحلة، التي يُخشى أن تقود إلى إغلاق كل مساحات ممارسة السياسة في ظل تفكك الحدود الفاصلة بين السياسي والجنائي/الجزائي.
لقد شهدت البلاد منذ سنة 2023 كثافة في التتبعات القضائية المكيّفة وفق قانون الإرهاب وغسيل الأموال ضد خصوم سياسيين وحقوقيين ونقابيين وصحفيين، لعل أبرزها «قضية التآمر على أمن الدولة» التي طالت أكثر من أربعين شخصية، ولكنها تتجاوزها لتشمل عشرات القضايا الأخرى، التي يشدّد المتهمون فيها وفريق دفاعهم على أنهم لم يرتكبوا جرمًا ولا فعلاً عنيفًا أو مجرمًا.
تساؤلات تتعلّق بالأساس بتداعيات هذا التوجّه الذي يعيد تعريف مفهوم الإرهاب بما له من ثقل قانوني وأخلاقي وسياسي، في توصيف أنشطة سياسية أو إعلامية أو حتى تعبيرات احتجاجية بصفة «الإرهاب» الذي يبدو أن مؤسسات الدولة بصدد إعادة تعريفه وتعريف ما يُعتبر تهديدًا، من منطلق يتجاوز فيه «الإرهاب» تعريفه السابق على أنه عنف مسلح أو استهداف للمدنيين أو تقويض للمؤسسات بالقوة، بل بات يشمل المواقف السياسية والحقوقية والرأي والنشاط المدني السلمي.
ما يبعث على هذه الخشية تصريحات هيئات الدفاع التي تفيد بأن القضايا الإرهابية التي يُلاحق بموجبها نشطاء سياسيون أو حقوقيون، صاحبتها ممارسات مقلقة، منها الإيقاف التحفظي خارج الآجال القانونية ورفض الكشف عن تفاصيل التحقيقات أو أدلة الإدانة وتجنّب المحاكمات المباشرة، وهو ما من شأنه أن يرسّخ الانطباع بأن الحدود بين السياسي والجنائي قد انهارت.
هذا الفتح للحدود بين السياسي والجزائي يحمل معه مؤشرات قد تعبر عن نزوع لتغوّل سلطوي يرسّخ أقدامه عبر هندسة جديدة للمجال والفضاء العام، تقوم على إقصاء السياسة أو أي نشاط مواطني وإفراغ الفضاء العام من النقاش والتعدّدية لصالح التخوين والتجريم. إذ إن الرسائل التي توجّهها أي سلطة عبر ملاحقة خصومها قضائيًا، ناهيك عن توجيه تهم الإرهاب إليهم، هي أنها تسعى لترسيخ حكم وسيطرة لا ينافسها فيهما أي طرف أو جهة، وأنها تُفرغ الساحة من المعارضين والخصوم.
في ظل هذا الوضع قد يكون من الصعب التمييز بين ما هو جنائي وما هو سياسي، في ظل شبهة أن تكون قضايا الإرهاب أداة رئيسية في حسم الصراع السياسي. ولا يتعلّق الأمر هنا بمجرد ملاحقة قضائية في سياق جنائي صرف، بل نحن إزاء نمط متكرّر يعيد إنتاج سردية رسمية تتّهم كل صوت معارض إما بالتآمر أو بالإرهاب أو بالتخابر مع جهات أجنبية.
وهذا يوحي بأن هناك استراتيجية تقوم على تفكيك الحدود المفهومية بين ما هو جنائي وما هو سياسي، من خلال استدعاء رمزية الإرهاب لتجريم الفعل السياسي. والأكثر خطورة هو ما يرافق هذه القضايا من ممارسات خارجة عن أطر المحاكمة العادلة، يصبح معها تفكيك الحدود بين ما هو جنائي وما هو سياسي ليس مجرد انزلاق ظرفي أو استثناء ناتج عن لحظة استثنائية؛ بل هو مسار متكامل يستهدف إعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع، بين السلطة والمعارضة، على نحو يُقصي السياسة ويحوّلها إلى تهديد أمني. حين يُجرّم العمل السياسي ويُوصم بالتآمر، يصبح المجال العام مفرغًا من فاعليه الأساسيين، ويتحوّل إلى ساحة مغلقة تُدار عبر منطق أمني.
هذا التوظيف المكثّف للقانون الجنائي في الصراع السياسي ينسف أي إمكانية لبناء حياة سياسية تعددية. فالرسالة المبطنة التي تُرسل من خلال هذه المحاكمات هي أن المعارضة تُساوي الخيانة، وأن التعبير يُعادل التحريض، وأن أي مشروع بديل هو تهديد لأمن الدولة. هذا التصوّر يُفرغ الديمقراطية من مضمونها ويعيدنا إلى أنماط الحكم التسلّطي التي تُدار بواسطة القضاء والقانون، لا لحماية الحقوق بل لقمعها.
وإذا كان الإرهاب الحقيقي خطرًا حقيقيًا يهدد أمن البلاد، فإن تسييسه يُفرغه من مضمونه ويحوّل مكافحته إلى أداة لإسكات الخصوم. بهذا المعنى، فإن ما يحدث لا يُقوّي الدولة، بل يُضعفها؛ لا يُحارب الإرهاب، بل يخلط بينه وبين المعارضة، ويفتح الباب أمام انزلاقات أخطرها أن يفقد جزء من التونسيين ثقتهم في مؤسساتهم وفي مرفقهم القضائي الذي بات مهدّدًا بأن يُختزل في أذهان جزء من التونسيين على وظيفة تتلقى التعليمات وتصدر الأحكام باسم السلطة التنفيذية، وهو ما من شأنه أن يُسرّع في عملية تآكل الثقة في العدالة، وبالمؤسسات، وبذلك نتقدّم خطوة في اتجاه تتحوّل فيه الدولة إلى أداة قمع بدل أن تكون إطارًا مشتركًا لتنظيم حياة التونسيين والتونسيات. إذ لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض ولا أن يستعيد عافيته ما لم تُعاد الأمور إلى نصابها.