المعهد الوطني للإحصاء بأن البلاد حققت فائضًا في ميزانها الغذائي بلغ 824,1 مليون دينار وذلك إلى موفى جوان الجاري، نتائج قد نقع في فخها فنشعر بالاطمئنان، فنغفل عن التمحيص جيدًا في تفاصيل الأرقام التي تكشف عن أزمة هيكلية تُهدّد أمننا الغذائي بشكل متواصل.
فظاهر الأرقام التي قدمها المرصد في آخر تقرير له تُبيّن أن الصادرات الغذائية لتونس سجلت تراجعًا حادًا بنسبة 20,7 % مقارنة بسنة 2024، مقابل انخفاض محدود في الواردات بنسبة 2,0 %. والفخ هنا يكمن في التباين المسجل في مستوى تراجع الصادرات والواردات، والذي لا يُمكن اعتباره مؤشرًا إيجابيًا، إذ هو في حقيقة الأمر يُعبّر عن انكماش اقتصادي واختلال مزمن في قدرة المنظومة الفلاحية على الإنتاج والتجدد.
ففي عمق النسب والأرقام يكمن الخلل، الذي يبرز على حد سواء في تفاصيل الصادرات أو الواردات، ويُبيّن منذ وهلته الأولى عن التبعية المُقلقة لتونس في علاقة بالمواد الرئيسية لسلة غذائها وهي الحبوب والزيوت والسكر.
إذ بلغت واردات الحبوب 1.481 مليون دينار، بتراجع ناهز 13,5 % عن السنة الفارطة من حيث التكلفة المالية، وهو ما يقترب من نصف إجمالي الواردات الغذائية. هذا المعطى، قبل الذهاب إلى تفكيكه إلى أجزاء، كافٍ لوحده لإبراز واقعنا المتمثل في ارتباط أمننا الغذائي عضويًا بالأسواق الخارجية.
هذا الارتباط الذي يمس من السيادة الغذائية ويرفع تكلفة الغذاء للتونسيين، قد تكون تفاصيل واردات الحبوب أبرز تجلٍ له. فمقارنة بالسنة الفارطة، استوردت تونس حبوبًا أقل من الكميات المستوردة في ذات الفترة من السنة الفارطة بنحو 11 بالمئة. وهو ما يعكس تأثر السوق المحلية وقدرة البلاد على تلبية احتياجات السوق في ظل ارتفاع الأسعار العالمية نتيجة لتقلبات مناخية وأزمات لوجستية وسياقات جيوسياسية متوترة، مثلما تؤكد تقارير «الفاو» في منتصف 2025.
وهنا تكمن الخطورة: تونس تدفع أكثر مقابل كميات أقل، ما يزيد من الضغط على المالية العمومية ويُضعف مناعتها تجاه صدمات السوق العالمية. وهو ذات الأمر الذي يتكرر في ملف الزيوت النباتية، التي سجلت تراجعًا في الكميات المستوردة بنسبة 38,7 % عن السنة الفارطة، في حين تراجعت التكلفة المالية، أي ما أنفقته البلاد، بنسبة 26 %، وهو ما يرسّخ حقيقة أن تكلفة الاستيراد ارتفعت ويبدو أن سُبل التحكم فيها تمّت بتقليص الكميات.
هذه المؤشرات تُبرز مدى هشاشة المنظومة الوطنية وعجزها عن توفير بدائل إنتاجية. وهو ما يُسقط الانطباع الأول الذي يتركه الفائض الظاهري في الميزان الغذائي، الذي متى أمعنّا النظر في تفاصيله سنقف على حجم الهشاشة الهيكلية في تركيبته، التي تتضمن أيضًا الصادرات.
إذ لم يتغيّر الترتيب، وإن تغيرت النسب، في علاقة بالمواد الفلاحية/الغذائية التي نُصدّرها، ليُحافظ زيت الزيتون على الصدارة باستحواذه على 56,9 % من مجمل الصادرات الغذائية التونسية لهذه السنة. والمفارقة أنه ورغم ارتفاع الكميات المُصدّرة بأكثر من 44 %، إلا أن العائدات المالية انخفضت بنسبة 31,1 %، وذلك نتيجة تراجع الأسعار في الأسواق العالمية.
مما يعني أن هذه النسب التي قد تُعتبر للوهلة الأولى «مكسبًا» هي في حقيقة الأمر المؤشر الذي يكشف عن موطن الخلل في كامل المنظومة التي تعاني من تبعية للأسواق، وضعف تنويع المنتجات، وغياب تثمينها.
والأرقام هنا ليست مجرّد معطيات جافة، بل هي دعوة صريحة لمراجعة سياساتنا وخياراتنا الاستراتيجية لنتمكن من تجاوز مفارقة الفائض الغذائي الهش، الذي لا يضمن أمنًا أو سيادة غذائية لتونس، بل يُكرّس تبعية تتفاقم مع تقلبات السوق وأسعاره.
المطلوب اليوم ليس فقط تحسين نسب التغطية، بل إعادة تعريف مفهوم السيادة الغذائية ذاتها. سيادة لا تُقاس بحسابات الفائض الشهري، بل بمدى قدرتنا على تأمين غذائنا من أرضنا، واستغلال ثرواتنا بعقولنا، والانفكاك من التبعية للأسواق.
إذ إن الاستمرار في الاعتماد على واردات الحبوب، التي ترتفع أسعارها بوتيرة متسارعة، يجعلنا عرضة لمخاطر اقتصادية واجتماعية جدّية، مثلما تُحذّر من ذلك تقارير البنك المركزي التونسي ومنظمة الفاو (جوان 2025). وهذا ما يستوجب سياسة فلاحية جديدة، جريئة وواقعية، تُعيد الاعتبار للإنتاج الوطني، وتُحصّن سلسلة القيمة، وتُقلّص التبعية تدريجيًا.
المرحلة تستوجب شجاعة سياسية وفكرية، تُخرج الفلاحة من خانة الملفات الثانوية، وتضعها في قلب السياسات العمومية. فالأمر لم يعد مجرّد عنصر في معادلة اقتصادية، بل هو اليوم ركيزة للأمن الغذائي الوطني وأداة سيادية من الطراز الأول