أحد أكثر المشاهد انتشارًا على الشاشات ومنصات التواصل الاجتماعي التي بات روادها مع موعد يومي لأجساد تنهار أمام عدسات الكاميرا أثناء رحلة بحثها عما يسد رمقها.
هذه المشاهد ليست فقط مجرد توثيق للمأساة بل هي رموز كثيفة الدلالة، جسّدت بأقسى الطرق كيف يمكن للتجويع أن يكون أداة حرب، وكيف يوظف الاحتلال كل قدراته لمنع الطعام عن سكان غزة في ظل تواطؤ دولي وعربي فاضح.
مشاهد الإغماء وطوابير المنتظرين الذين يخاطرون بحياتهم أمام مراكز مؤسسة غزة لتوزيع المساعدات، تكرّرت وتحولت إلى نمط يومي في الحياة الفلسطينية في قطاع غزة القابع تحت الحصار الكلي منذ أشهر، ليست أحداثًا عابرة بل هي حدث صادم فرض على الشعوب سؤالًا بسيطًا وهو: ما الذي يمكن فعله حين يُستخدم الجوع كسلاح إبادة؟
الردّ على هذا السؤال لم يصدر عن الأنظمة بل جاء من الشوارع ومن قلب العواصم التي تدعم أنظمتها حرب الإبادة وخيار التجويع، وتمنح الاحتلال غطاء دبلوماسيًا ودعمًا عسكريًا. جاء الجواب من مواطنيها الذين سبق أن احتجوا سواء في واشنطن وباريس ولندن وأمستردام، واليوم هم مع غيرهم من شعوب الدول العربية انخرطوا في حملة تضامن دولية تمثّلت في دخول الآلاف في إضراب عن الطعام ليوم على الأقل تضامنًا مع الفلسطينيين في غزة الذين ينهارون جوعًا.
هذا التضامن عبر الامتناع الطوعي عن الطعام تجاوز كونه فعلًا عاطفيًا أو أخلاقيًا، بل بات حدثًا سياسيًا حضاريًا يعبر عن إعادة تموضع رمزي في الضمير العالمي، الذي استفاق اليوم على أن الفلسطينيين بشر كغيرهم، وأن انتهاك كامل حقوقهم والسعي المحموم من الاحتلال وداعميه لإبادتهم وتهجيرهم يتجاوز وصف جريمة الحرب، التي لم يعد بيد من يعارضها اليوم من مواطني مختلف دول العالم إلا أن يوظفوا أجسادهم للتنديد بها.
وهنا يصبح توظيف الأجساد ليس فقط أداة للضغط من أجل إنهاء حرب الإبادة، بل إعلانًا بأن التضامن مع الفلسطينيين انتقل إلى مرحلة جديدة عنوانها الانخراط الكلي في معركة الحقيقة. وهو بدوره إعلان عن انتصار فلسطين في حرب السرديات، عبر حراك عالمي يعيد مساءلة النظام الدولي والمنظومة الغربية من داخلها، بشكل احتجاجي تجاوز المألوف في نمط التضامن الغربي مع فلسطين.
فحين يختار «الآخر» أن يجوع طواعية تضامنًا مع الفلسطينيين في مأساتهم، تتغير معادلة السرد كليًا. فلم تعد فلسطين مسرحًا لصراع أو مأساة، بل صارت عنوان الأزمة الأخلاقية التي تعصف بالغرب وقيمه التي تنكر لها. فهذا التغيير حمل في جوهره إدراكًا جديدًا في صفوف الحركات الشبابية والاجتماعية والشعبية في الغرب وفي غيره، سمته الأبرز استنتاج أن ما يحدث في غزة ليس معزولًا عن البنية السياسية والأخلاقية التي تحكم الغرب نفسه.
وهو ما يجعل من الحراك التضامني عبر الإضراب عن الطعام يجمع بين مناهضة لحرب الإبادة وإدانة لها، واحتجاج على بنية التضليل والازدواجية التي تحكم المواقف الغربية. فحين يقرر مواطنو الدول الداعمة للاحتلال الإضراب عن الطعام، فهم لا يُدينون فقط صمت حكوماتهم، بل يظهرون حالة التفكك الداخلي في المنظومة القيمية الغربية.
وهذه أبرز دلالة هذا الحراك التضامني العالمي. فما نراه اليوم هو تتويج لتغير تدريجي في موازين السردية حول فلسطين. فطوال عقود هيمن خطاب الاحتلال على المجال العام الغربي، فصاغ صورة الفلسطيني باعتباره تهديدًا، وصوّر الكيان المحتل كديمقراطية تحمي نفسها في محيط معادٍ. لكن صور المأساة والحرب القادمة من غزة، صدمت العالم وأولدت ردود فعل شعبية في الغرب رغم القيود الإعلامية والتعتيم والتضليل المستمر، فقد تكسر هذه الصورة النمطية، وأعيد طرح سؤالين جوهريين في المجال الغربي، هما: من الضحية ومن المذنب؟ والثاني هو: من يحمي القيم وهل يُقبل بدهسها باسم الواقعية السياسية؟
وطرح هذه الأسئلة لا يكشف فقط عن أزمة في إدارة الرأي العام الغربي، بل عن تصدّع في شرعية المنظومة القيمية نفسها. فالتحركات التضامنية مع غزة باتت تعبّر عن سياق أوسع لأزمة الأنظمة الغربية.
فهذه الأنظمة التي طالما أسّست شرعيتها على سردية التفوق الأخلاقي، تجد نفسها اليوم عاجزة عن إقناع مواطنيها بموقفها من حرب الإبادة، وباتت في مواجهة مباشرة مع عمق التناقض مع شعوبها ومقولاتها.
إن ما يجري اليوم في علاقة بالرأي العام الغربي وانتصاره اللاحق للفلسطينيين يُشكّل بلا شك واحدة من أعنف الهزّات التي شهدتها سرديات الاحتلال والتفوق الغربي معًا