ســـرديـــة الغـائب

غالبا ما تنتهي النقاشات السياسية وحتي المحادثات اللاشكلية و العفوية بين الديمقراطيين و مناضلي حقوق

الانسان و النقابين المتعهدين الي اليوم بالحفاظ على حلم الثورة في السنوات الأخيرة بسؤال حارق لماذا وكيف وصلنا الي ما نحن فيه ؟ لماذا نعاصر العبثية السياسية والتخبط الحكومي و نشهد انهيار البلد عاجزين عن فعل أي شيء يوقف النزول الى القاع ؟

ما يعمق هذا الشعور بالغبن و الإحباط هو أننا كنا في الامس القريب نمثل طيفا واسعا و أقرب إلي بناء ذاتنا وهويتنا على مسافة من الاستقطاب الثنائي وكنا أكثر ثقة في قدراتنا و من النزاهة أن نقف على أخطائنا في حق أنفسنا وفي حق الثورة و الوطن و الاكتفاء بالقول أننا كنا ولا نزال ضحية مؤامرات خصومنا لا يفيدنا في شيئ

أفضل من من صفوفنا تغويه رمزية سيزيف لا يكلّ من محاولة حمل الصخرة الى قمة الجبل مؤمنا بالفعل كفلسفة وجود و أكثرنا يأسا لا يخفي علامات المينالوخيا Melancolie . التي يعيشها وحيدا أو مع رفاق أدمن على معاشرتهم و العيش معم وأمسي تحت رهاب مفارقتهم حتي وإن صاروا عقبة أمام انعتاق الفكر و الحركة وضيقوا على المناضل الحق في أن يرغب في شيء آخر وأن يغامر بابتكار جديد للسياسة.

بعيدا عن هذا الفهم التحليل-نفسي على أهميته , عديدة هي محاولات التعاطي مع هذه المعضلة فمنا من يرجع ذلك الي تركة عشرية الإسلام السياسي التي أجهزت على الامل الديمقراطي و أعادت الحنين الى التسلطية و الحكم القوي وسواء كان هذا الشعور نابع من أوساط شعبية خذلها من «يخافون الله» حين ظهرت حقيقة بعضهم وقد أتخذوا من الدولة غنيمة و الدين تجارة و المنافع هدفا أوحد وتستروا على حملة السلاح و دعاة القتل أو من مثقفين علمانيين تعبوا من منازلة الإسلامين على ارض الفكر والسياسية و يرتاحون لرؤيتهم جميعا حتي وإن كانوا مسالمين في السجون و المنافي و المخابئ مجددا لا وصوت ولا رأي لهم

قراءات أخري تستند لفهم مأزقنا الي ضعف الثقافة الديمقراطية في ربوعنا و وعينا الجماعي و هشاشة المجتمع السياسي و المدني المجهد الذي لم يعد يقوي على الفعل وحتي على ردّ الفعل و تكتفي باستعادة أطروحة الإستثناء الشرقي : نحن أمة غير جديرة جوهريا منذ ماضيها وإلي الأبد بالحرية

ومع ذلك يبقي السؤال مفتوحا في نظرنا على الأقل لسبين الأول هيكلي و كوني ويهم أزمة الديمقراطيات في العالم التمثيلية و الليبرالية و الاجتماعية فصعود النزعات القومية و الشعبوية في المجتمعات الغربية و ضياع قوي اليسار و الديمقراطيين الراديكاليين في زحمة الصخب الحالي و الدور المتنامي للمال و الإعلام في صناعة سياسيين من ورق ومن صور الشاشات لا عمق فكري ولا رؤي لهم غير نقل براديغم المال و الريع ومنطق الربح و الخسارة من مجال سوق المعاملات المالية الي مجال «سوق السياسة» قبل العودة الي عالم مصالحهم والكف عن السياسية

والثاني وطني تونسي محوره قراءتنا لقرن من تاريخنا المعاصر بتحوّلاته الثقافية و الاقتصادية و الاجتماعية والسياسية و الديمغرافية وما أفرزه على المستوي المدني من تمثلات ذهنية و مؤسسات مشكلة للفضاء العمومي وللمشهد السياسي الرّاهن الفوقي المعطّل وللأنثروبولوجيا السياسية التي تخترق مجتمعنا والتي نراها ولا نراها لأنها تصعد أحيانا الي أعلى وتبقي مجهرية أحيانا أخري لا تنكشف للنظر إليها بالعين المجرّدة وقد تضل تنمو بعيدا عن الأضواء وحيث لا نعلم.

وإذ يبقي المحور الأول موضوع اهتمام أكاديمي وسياسي نشط من المهم أن لا ننفصل عنه بل محاولة المساهمة و الانخراط فيه من المواقع التي نقيم فيها جغرافيا و ثقافيا لأن مختبر إعادة ابتكار الديمقراطية لم نعد موضوعا له بل فاعلين فيه, فإن ما يهمنا بشكل مخصوص تدقيق النظر في وضعنا لا من منطلق الوصف المحايد بل من منطلق الحرص على الفهم وعلى الفعل

ما يرشح من قراءة الحاضر من منظور الماضي هو التشكل النهائي و الناجز مجتمعيا و سياسيا لسرديتين سياسيتين.

الأولى إسلامية محافظة روافدها عديدة تمكنت بعد عقود من المراكمة الدعوية و السياسية و التنظيمية من بلورة معجمية خطاب و بناء مخيال جماعي قوامه الإسلام كدين كلي يعني بشؤون الإنسان كافة فيه للمسلمين مرجعية أخلاقية لسلوكهم الفردي و حلول سياسية لشؤون الدولة و الحكم و«لعاهات» المجتمع , ورغم تعرض هذه السردية لتحديات الواقع و المجتمعين المحافظ و العلماني فإنها لم تتفتت في نواتها الصلبة وسواء عبرت عن نفسها بعد 2011 بمواقف راديكالية وعنيفة وحتي جهادية وإرهابية أو مدنية مرنة فإنها تبقي عرضا سياسيا تونسيا له جمهوره وقاعدته المحدودة و نخبه المتحمسة وهي عند البعض ملاذا , و من مصلحة الجمهورية الديمقراطية المدنية ان تطوع روافدها السلمية وقد تركت سياسة «المصحف و السيف» داخل مؤسساتها و ثقافتها , لأن الديمقراطية تبقي ديناميكية إدماج في آلياتها وقيمها للمجتمع الحيوي الذي تريد تنظيمه وهي ليست مقولات جوفاء تلتعاطي مع مجتمع متخيّل أم مجتمع مغيب محكوم بالصمت

السردية الثانية هي سردية الفكر الإصلاحي و الحداثي الذي تبنته الحركة الدستورية الوطنية و حوّلته الي إيديولوجيا تحرر وطني بداية ثم إيديولوجيا بناء الدّولة الوطنية وبضرب من المبالغة بناء «الأمة التونسية» بشخصيتها وتفردها التي تجعلها أقرب في ذهن بورقيبة و ورثة فكره إلي قيم الغرب المتقدم و التنويري منها الي شرق يجرّ أذيال الخيبة و التحجر و الجهل .

نجحت هذه السردية بفضل نواتها الصلبة و نضال المؤمنين بها في طبع الحياة الاجتماعية التونسية نهائيا و ما وعد به بورقيبة من ثورة اجتماعية تضل ركائزها صامدة بعده صار واقعا محمودا لأن التونسيين والتونسيات استبطنوا في أغلبهم حقوق النساء و الشغف بالمدرسة و الانفتاح على العالم , لقد غدت هذه السردية جزءا من الذاكرة الصلبة للمجتمع

ورغم استهداف الثورة «للتجمع الدستوري الديمقراطي» حينها ولرموزه ومقراته فإن مسارها لم ينفك يبحث عن طريق آمن يضمن للسردية الدستورية الإصلاحية الوطنية المساهمة في بناء وحماية الجمهورية , ولا تزال هذه الطريق الي اليوم وعرة ومن أوكد مهام ورثة هذه السردية الحداثية التي لم تعد فقط دستورية بورقيبة بل نلمح ونسمع حامليها و المؤمنين بها بدرجات متفاوتة في كلّ مكان هو التفكير في شق طريقهم الي تونس ما بعد الثورة الي العودة الى ما قبلها .

مشكلة هذه السردية بعد 2011 أنها لم تتوصل الى بناء عرضها الفكري الجديد وضلت محافظة بوجه ما فدعاتها يتمسكون بعدّ البورقيبية التحديثية بمثابة النفي التاريخي للمحافظة الدينية و الاجتماعية , ويرفضون القبول بأن الثورة نفيا تاريخيا جديدا لهذا النفي البورقيبي أي نفيا لطابعه الأبوي التسلطي و الفوقي , بقاء هذه السردية خارج مسار الثورة خطأ تاريخي وحتي انتصارها الانتخابي إن تحقق ثانية فسيذهب جفاء ولن ينفع التونسيين اليوم لأنه كمي وبلا مشروع مستقبلي مركّب

وتبقي السردية الغائبة هي السردية الثالثة التي لها بدورها نواتها الصلبة و محطات حفرها في الأرض ونعني بها سردية الحركة اليسارية و النقابية و النسوية المستقلة و الطلابية و الحقوقية و الفنية .. فضائل روادها و مناضليها أنهم سعوا لجعل الدفاع عن المجتمع ضد الدولة المستلطة هدفا يوما ما و الديمقراطية التعددية ضد حكم الفرد '' مجاهدا أكبرا '' او رئيسا مدي الحياة الي حد العجز حين لزم الأمر ذلك وتصدت لحكم العائلة وحرصت على صون حقوق الإنسان ضد السجان والجلاد والكاهن و القبيلة و الانتصار لحقوق النساء ضد مرض الذكورية العضال , وانحازت للشغالين و للهوامش و أخيرا للتعبيرات الاحتجاجية الجديدة و للأقليات وحمت المبدعين

قبل الثورة وبعدها ضلت هذه السردية مشتتة تجريبية وكلّما حسبنا أنفسنا بضرب من الرومانسية جمعا استفقنا أن قلوبنا شتي , فهل أن مأزقنا الوطني الحالي يعود اليوم مباشرة لغياب هذه السردية ؟

عن هذا السؤال أجيب بنعم , أولا لأن الخصومة الإسلامية الدستورية في عمقها القيمي و الأنثروبولوجي لم تحل بلقاء الشيخين و لا بخدعة المجاملات بل إنها لا بد أن تستمر بلغة الفكر و السياسية حتي يقف التونسيون على حقائق التاريخ ورهانات الحاضر وثانيا لأن القرن المنقض و العقد اللاحق عن الحدث الثوري صعّدا الي السطح تجليات هذا الموروث الذي نسميه هنا السردية الثالثة و هي بضرب من المجازفة و التوسع السيمائي سردية اليسار الديمقراطي . مثلث هذه السردية : كلّ الحقوق لكل الناس , النضال للحد من الفوارق الاجتماعية بنقل المعركة الديمقراطية من سماء الأفكار الي أرض الواقع الاجتماعي , بناء مؤسسات الدولة و المجتمع بما يضمن استدامة المشروع الديمقراطي .

غياب هذه السردية الثالثة غير قابل للتعويض بغير المؤمنين بها فقد جربنا رهطا من السياسيين المتهافتين عليها وهم ليسوا أهل لها , وهي لن تقيم في ارض ليست لها إلا ردها قليلا من الزمن و لجوؤها الي الإسلاميين حينا و الدستورين حينا آخر و للمشروع الشعبوي الجديد لقيس سعيد إنكار للتاريخ وتخلي عن جهد بناء الذات واستكانة لما يسميه ابن خلدون الانبهار بالغالب و الخوف من وصمة الأقلي

هناك طلب اجتماعي متعدد لهذه السردية وسيبقي تحدي بنائها قائم على مدي توفقها في جمع المشتت والمبعثر دون طمس التنوع و الاختلاف وهو تحدي مزدوج فكري تواصلي في المقام الأول كفيل بحبك خطاب مميز و جعل الروّح الجماعية المشتركة للمؤمنين بها حية ونابضة وهو أيضا عملي يتعلق بالفضاء المادي و التنظيمي الحاضن لها حتي لا تضيع طاقتها خارج فضاء السياسية. من المؤكد أن الفضاءات الحالية كلها حتي أكبرها أصغر من الفكرة ومن المؤكد أيضا أن الفكرة أجمل من أن تموت.

 

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115