قد أعلنت في مناسبة اولي عن نسبة 8,8 % هذا التنازع حول الرقم فضلا على أنه عمق أزمة الثقة في هيئة بوعسكر , خلق استقطابا بين موقفين الأول يقوده رئيس الجمهورية مضمونه المضي قدما في نفس الخطاب والأداء كما لو أن شيئا لم يكن فلا ضير أن تكون النسبة منخفضة المهم أن منتقديه و دوما في معسكر الشر واللاوطنية وهم المعرقلون لمسار 25 جويلية التاريخي وهو مسار سيستمر غير مبالي بهم
الموقف الثاني عبرت عنه المعارضة ومنظمات المجتمع المدني و المركزية النقابية أعلن في حّده الأدني عن نهاية الفسحة و ضرورة إنقاذ المسار الديمقراطي بتحكيم صوت العقل و العودة الي الحوار وفي حدّه الأقصى رفع مطلب إلغاء نتائج الانتخابات , و استقالة الحكومة و تنحي قيس سعيّد و تنظيم انتخابات جديدة فالمرور من 2,8 مليون مكّنوا الرئيس من قرطاج الي مليون فقط لانتخاب ممثلي الشعب يكفي لوقف التدحرج نحو الهاوية .
الموقف الأول سنده الرئيسي الدولة الصلبة و معين بلاغته حربه المستمرة ضد الفساد حتي أن الناس لم يعد بوسعهم التمييز بين قضايا الفساد و التآمر الفعلية و القضايا الكيدية , الموقف الثاني دفاعي يتحرك في كلّ الاتجاهات للعودة للديمقراطية , قدرته التعبوية ضعيفة لا وحدة تنظيمية تؤطره ولا رؤية مرحلية و إستراتيجية تخرجه من النفق .
ويبدو أن الرغبة المعلنة ومحلّ المواجهة بين الرأيين أبعد من التنازع حول أرقام يتخذها كلّ طرف ذريعة متي أراد بل هي في أن يكون للديمقراطية معني حقيقي هو في الأساس معادي للنخب و المؤسسات القديمة و يستمد مشروعيته من الشّعب بالنسبة لأنصار الرئيس وتبقي الديمقراطية في نظر الآخرين منظومة تعددية حزبية و مجتمع مدني مستقل و إعلام حر و دولة قانون حتي وإن لم تكن ناجعة على مدي العقد الماضي, بل تلحّفت بالفساد و خذلت الثورة .
بهذا تغدو المهمة الأساسية لدي كلّ طرف هي تبني فكرة عن ديمقراطية لم يعد فيها مجال للتفاهم و الحوار مع الآخر وتقوم على التنافي المتبادل وهو وضع غير قابل موضوعيا للاستمرار ضحيّته الوطن برمته .
إذا كان هناك ارتباط تجريبي وتاريخي لا يمكن إنكاره بين الديمقراطية والليبرالية السياسية و هو قناعتنا اليوم تظل الحقيقة الأقوي هي الوعي بأن شروط ضمان هذا الارتباط داخلية بالمعني السياسي من خلال توفر ميزان القوي بين المتصارعين وبقائهم في مربع التنافس السلمي , وهي أيضا خارجة عن الحقل السياسي من خلال نجاح الاقتصاد نفسه في زمن العولمة الصّعب في ضمان الاستقرار وتحقيق الإدماج الاجتماعي لأوسع فئات المجتمع .
الأطروحة التي نتبناه إذن , تتلخّص أوّلا في أن توازن القوي يضمن التعددية و سلامة العقد الاجتماعي وديمومته و ثانيا في أن التنمية الاقتصادية العادلة تحرّر الناس من الهموم المادية ومن الخوف ، و تفتح المجال للتعبير عن رغبة متنامية في الديمقراطية السياسية .
مقابل ذلك سجنت الحياة السياسية في مشهد حزين منذ 25 جويلية و الذي بدأ كإعلان مسار إنقاذ كاد يكون حتميا في نظر عديد القوي السياسية و المدنية و عموم المجتمع لوقف الانهيار الذي كانت عليه منظومة الحكم السابقة إلاّ أن كلّ محطات ما بعد 25 أكّدت التقدم نحو حكم فردي ديماغوجي مغامر.
لذلك نكاد نجزم بوجود غصّة خانقة أعاقت كلّ قوي المعارضة , تعود إلي تباعدها الهيكلي فطرفاها الرئيسيان الإسلاميون و الدساترة عادا الي مقولة خطان لا يلتقيان بعد أن التقيا على خراب البلد , و الخط الثالث يطويبا لا هوية لها ولا هو حقيقة مادية, والمجتمع المدني مجهد وبعيد عن مظاهر قوته التي تجلت في السنوات الاولي للثورة هجرته طاقات الشباب والنساء ولم يصمد منه إلا القليل .
فهل يعني منعرج السبت الفارط و الذي حلم الرئيس بجعله تقاطعا بين ذكري الثورة و مبايعة الشعب له مجّددا أن قيس سعيّد يعيش أيامه الأخيرة في الحكم ؟ وهل يعني أن المعارضة الحالية مرشّحة للعب دورها الوطني المنقذ وملأ الفراغ أي أنها قبلة 90 % التي لم تصوّت؟
بعيـدا عـن انزلاق السـجال أحيانـا إلـي مسـاحات غيـر مقبولـة أخلاقيا باستهداف الأشخاص و عن ردود الفعـل التخوينية , فليس كلّ من شارك في الانتخابات بالترشح والتصويت منخرط في الإنقلاب بل إن مرشحين من نشطاء الحركات الاجتماعية وجدوا في النظام الانتخابي الحالي فرصة للترشح , رغبة منهم في التحوّل من المطلبية المحتجّة إلي لعب دور سياسي أشمل . وليس كل من عزف او قاطع لا وطني و متخاذل يعمل على عودة القديم . نحن في حاجة أن نفهم .
معضلة الأرقام أنها تضع حجابا على وقائع وتجارب متنوعة فلكل تجربة مسارها وسرديتها التي لا يرويها إلا صاحبها ولا أحد غيره تلك هي مزية العلوم الإنسانية حين تفتح ابصارنا عن اللامرئي و تحمينا من التعميم جزافا . فليس المهم الدعوة الصّاخبة لتغيير الواقع جذريا بل المهم فهمه أولا .
علينا أن نقرّ اننا أمام حدث لا يمكن المرور عليه بصمت فهو مشحون بالدّلالات لعلّ أهمها دلالتين يدور حولهما تفكير ممكن لا حقا.
أولاهما وبضرب من انقلاب الأوضاع هي عزلة الرئيس الشعبية فالحدس الشعبي هو الذي تخلي هذه المرة عن مشروع الرئيس وهو إن منح ثقته له كجدار صد لعودة المنظومة السابقة فهو لم يعد يري في عرضه السياسي ما يطمئن ولم يستجب لندائه «للخروج لثورة الصندوق» ربما نحج الرئيس في البروز كقوة هدم لبيت تداعي للسقوط ولكنه فشل في أن يبرز كقوة بناء .
الحسّ الشعبي هذه المرة وليست نخب المجتمع المدني و أنصار الأحزاب هو الذي وقف على خواء عرض الرئيس بل على ما يمثّله من خطر على الدولة و المجتمع , فزبد الخطاب الرسمي جفاء لا يمكث في الأرض , ما هو حقيقي هو غلاء الأسعار و أزمة التموين و تواصل البطالة و عجز الدّولة عن خدمة المجتمع , ومحاولة محاصرة القضاء , و الاتكاء على الأمن كقوة ردع وتدجين الإعلام العمومي , كل هذا أفقد المشروع الرئاسي تدرجيا احزمة دعم شعبية كان يفاخربها ككل شعبوي في وجه النخب .
مئات التحركات الاحتجاجية رفعت مطالب ديمقراطية واجتماعية جلية اصطدمت «بدولة تنين» و حكومة بلا حلول و خطاب رئاسي عديم الجدوي . عزوف الناخبين و تخلي الفئات الشعبية عن قيس سعيد بعد أن كانت خزان وصوله للحكم و حزام داعم له في 25 جويلية هو ترجمة سياسية اولي عن خيبة الامل والغضب و الخوف إنها انفعالات حزينة لم تسمع , فعبّرت بصمت يوم 17 ديسمبر فمن يعجز عن رصد الأصوات المنخفضة سيصطدم بالأصوات حين تدوي, وهي أيضا عنوان تحوّل مشروع الرئيس الأفقي في منشئه الى « سيستام مغلق» ولّد خروج عموم الناس من فضاء السياسية بعد ان دخلوه خاصة في الدور الثاني للرئاسية.
مشروع الرئيس للديمقراطية القاعدية المبهم تحمله وتنظر له حلقات نخبوية و مجموعات سياسية بعضها همّه القضاء على الإسلاميين , و بعضها يبحث عن أساس فكري يساري للمشروع دون جدوي ودون إقناع خاصة, في ضل غياب نقاش عمومي بعيد عن الإثارة , أما الشعب فقد اشاح هذه المرّة بوجهه عنه وعنهم , من عزف عن هذه اللحظة هي الجماهير التي ظن قيس سعيد أنها بايعته كما لو كان نبيا معصوما, فهذه الأخيرة لم تعد معنيّة بعرض سياسي غرائبي لا مصلحة لها فيه بل لا تريد أن تكون فيه مجرّد أداة فالحدس الشعبي فطن أحيانا ولا يحتاج دائما لطليعة تقوده , و الطليعة التي تنطق باسم المشروع اليوم ضعيفة الصّلة بانفعالات الناس و ضعيفة السند الفكري للدخول في نقاش جدي مع من يخالفها الرّاي .
الدلالة الثانية هي عدم تحّول المتخلين عن الرئيس والعازفين عن صناديق الاقتراع الي دعم المعارضة وهي معارضات فهذه الأخيرة إذ تشتهي هذا التحويل الآلي فإن عزلتها بدورها حقيقية ولعلها تدفع كلها دون فرز و بغير وجه حق , ثمن فساد جزء من الطبقة السياسية خاصة تلك التي أرادت التمكن من الحكم و الاستفادة من دولة غنائمية ظنتها مستباحة .
عادت بنا هذه الانتخابات الي معضلة العلاقة بين السياسي و الاجتماعي حيث تبدو السلطة بمثابة « مكان فارغ» وهي مرحلة توازن هشة اليوم, فإذا كان الحاكم اللاشرعي ديمقراطيا هو الذي شغل هذا المكان في النظام القديم سواء بشرعية الحق في الرئاسة مدي الحياة باسم مقاومة الاستعمار ثم باسم التغيير المبارك و العهد الجديد قبل أن يتماسك في آخر سنواته بقوة القمع العمياء .
ففي النظام الجديد ، يفترض في هذا المكان أن يكون مشغولاً بشكل مؤقت وديمقراطي مع نهاية كل انتخابات ، بحيث يتداول عليه من يكتسب الشرعية المتحوّلة بالضرورة ، ويثبت كلّ نظام ديمقراطي نضجه بالأريحية والأناقة التي يتعامل بها شاغل المنصب الذي خسر الانتخابات ومن خلالها ثقة المواطنين مع من يفترض فيه تسلم زمام السلطة بعده .
مبررات القلق من المناخ العام في البلاد علاوة على الأزمة المالية و الاقتصادية الخانقة و تداعياتها الاجتماعية تعود الي عدم القبول بأن السلطة مكان قابل للإخلاء من قبل من يشغله اليوم بل إن التمادي في الإنكار قد ينتهي الي تبرير تصفية المعارضين و إخماد الأصوات الحرة وتكمن أيضا في لا جاهزية من يفترض ملأه باسم الإرادة العامة للناخبين خاصة و أن من شغله بعد الثورة خيّل له أنه يشغله الى الأبد . أي أن السياسي يبتعد بخطوات سريعة عن الاجتماعي وفي ذلك خطر على الديمقراطية .
لا يبدو كسر الحلقة المفرغة قريبا قبل تشكّل القوة القابلة لملأ المكان الفارغ فكيف نبنيها و ما هي أولي خطوات هذا البناء ؟