فالتّطور الطبيعي لمنحني الحكم الفردي كان يفترض عدم انتظار موعدا انتخابيا تعدديا وتنافسيا يسمح بالمسائلة و المحاسبة و التقييم واحتمال التّداول السّلمي على رأس السلطة .
ضعف المعارضة و انسحاب الشّارع بدوافع توسّم الخير في الرئيس أو الخوف أو الإنهاك وضمور الشغف بالديمقراطية وصعود الطّلب على الدولة القوية و الاستقرار , لم يسمحا بخلق موازين قوي تفرض مقومات الانتخابات الحرّة , بدءا بضمان هيئة مستقلة جديدة و حضور مراقبين , و إطلاق سراح سجناء الرأي و السّياسة و ضمان الحريات وصولا الي المنافسة و الاحتكام للشعب مقيّما و محاسبا ثم ناخبا .
غير أن تسارع أحداث الأسابيع الأخيرة حمل مؤشرات جديدة تحيل من جهة أولي إلى أزمة الحكم وقد صارت على مرئي الملأ وليست فقط استنتاجا تحليليا انطلاقا من مؤشرات الاقتصاد و المجتمع و السياسة و من جهة ثانية إلى صحوة مواطنية ممكنة .
فلماذا هي أزمة حكم و بوضوح أزمة نهاية نمط حكم فردي ؟ وأين تكمن علامات الصحوة ؟ والأهم كيف ننزّل هذه التحوّلات في سياق عام مداره العودة الى الديمقراطية و استكمال بناء دولة القانون و المؤسسات ؟
هي بوضوح أزمة حكم بالتوازي مع سياسات التّقشف الحريصة على التوازنات الكبرى وخلاص الديون بكلّ كلفتها الاجتماعية لأن من يحكم لم يعد يستطيع أن يستمر في الحكم حتي بالمعني الأعم أي إدارة بيروقراطية لهياكل الدولة تقوم على العقلنة و فاعلية المؤسسات , لقد تكرّرت التحويرات الحكومية و التسميات في مناصب هامة , بعد مدد قصيرة أحيانا عاكسة الارتجال في التعيين و في العزل , أكثر من ذلك خلافات الرئيس مع وزير الاقتصاد السابق السيد سمير سعيّد حول السياسة المتبعة مع صندوق النقد ثم خلافاته مع وزير الفلاحة السيد عبد المنعم بلعاتي حول طبيعة أزمة الشح المائي تعني أن الدولة لم تعد قادرة أن تتماسك كرؤية و كإدارة منسجمة و لا قادرة على صوغ خطاب يوحدّها و يقنع الناس حتي وإن تركنا جانبا وهنها كدولة ديمقراطية .
هذا الفشل في الحكم وقد تكرّرت علاماته يقف عليه جلّ المواطنين بحدسهم الطبيعي دون حاجة الي ثقافة سياسية واسعة وهو موضوع تندرهم وسببا لخوفهم من مجهول يكتفون بالتعبير عنه في حلقاتهم الخاصة اي في فضاءات ماقبل سياسية هي بالمعني السوسيولوجي فضاءات مقاومة متستّرة . ينكرها كلّ حكم مستبد .
من جهة أخري تبدو خطوط الفرز بين المخلصين و المناوئين متحركة بلغ تحرّكها الي مسؤوليات الدولة العليا ولم يعد حكرا على المعارضين و نشطاء المجتمع المدني و الصحفيين و النخب عامة , بمثل هذا الارتباك يفقد الخطاب الشّعبوي قدرته على تثبيت خط التباين بين '' النحن '' و'' الهم '' فالعديد ممن كانوا ضمن '' النحن '' لفظوا خارجها وصاروا خصوما .
هي باختزال أزمة حكم لأنها استعادت مثلث التّسلط الذي وظّفه بن على لسنوات دون أن يضمن له ديمومة البقاء أي قضاء تعليمات جائر, و مقاربات أمنية لكل قضايا السياسة و المجتمع , و إعلام تابع و تلويث للفضاء العمومي بحمي البروباغندا , و ملاحقة كلّ '' إبهام أصغر'' يبحر بحرية على شبكات التواصل الاجتماعي .. كلها علامات تسلّط اليوم كما بالأمس .
تزايد أعداد مساجين الرأي و السياسة لم يكسر الإرادات فالكلّ ينهل اليوم من مقولة '' الحبس كذاب و الحي يروح '' التي رسخها فتحي بلحاج يحي وصارت رافعة للهمم .
نحن أيضا أمام علاما ت صحوة لأن المرحلة سمحت بتقاطع إرادات مواطنية كانت متباعدة الأولي ثابتة على موقف إدانة الانقلاب و رافضة لتزكية مهازله الانتخابية بدءا بالاستفتاء على الدستور فالانتخابات التشريعية ثم المحلية وصولا اليوم إلي الرئاسية , أطروحة هذا الخط هي عزل النظام القائم ومقاومته سلميا وسياسيا بما استطعنا الي ذلك سبيلا حتي عودة الحياة الديمقراطية كاستحقاق من استحقاقات الثورة . وهو الخطّ الذي أيدته الوقائع .
الإرادة الثانية هي التي غادرت مركب الرئيس على مراحل بعد أن أيدت ما آتاه في حق الدولة و المجتمع آملة في تغيير قادم تبيّن لها سرابه وتحوّلها الى هذا الموقع خسارة للرئيس و مكسب للمقاومة الديمقراطية .
الإرادة الثالثة هي إرادة من أعدو ما يكفي من رباط خيلهم لمنازلة الرئيس في عقر صناديق اقتراعه ومنهم من نجح في قفز كل الحواجز المرشّحة ليوم المنافسة , فنجاح خاصة السادة عبد اللطيف المكي و منذر الزنايدي و عما د الدايمي و العياشي زمال في ذلك حقق أهدافه و كشف أكثر طبيعة الحكم و مرتكزات نظامه . حكم فردي لا يقبل مجتمعا تعدديا و لا فضاء عموميا حرا ولا تداولا على السلطة .
ثلاثة رسائل كبري من تحولات الأيام الأخيرة الأولي بينت حقيقة حكم الفرد الرّافض للمؤسسات وعلى رأسها مرة أخري سلطة القضاء الإداري بعد رفض وزارة العدل إرجاع القضاة المعزولين ورفض هيئة بوعسكر إرجاع المبعدين من المنافسة بقرار من هيئة تحكيمية مستقلة وهو ما يعني أن'' دولة سعيّد '' رغم خلو دستورها من مبدأ الفصل بين السلطات لا تزال حلبة صراع ممكنة على أرضية القانون من أجل الحق .
ديناميكية التّرشّحات و التّز كيات الشعبية وحتي البرلمانية كالتي تحصّل عليها المنذر الزنايدي -مما صدم حراس المعبد أنفسهم - كشفت أن التنظيمات السياسية التقليدية في تونس رغم ضعفها لا تزال قادرة على الاختراق و الخروج الي السّطح ونعني بذلك الإسلاميين عبر الجيل الثاني الدّاعم للدكتور عبد اللطيف المكي و الدساترة الداعمين للسيدة عبير موسي التي حرمت من التّرشح بسبب سجنها ظلما و السيد منذر الزنايدي الذي تمكن من تحفيز عائلته السياسية القديمة و أبعد منها وأعاد لها أمل عودتها الممكنة الي الحكم , إضافة إلي الفضاء الليبرالي الاجتماعي الذي أراد أن يتموقع فيه السيد عياشي زمال مؤسس حركة عازمون وهو النائب السابق عن تحيا تونس في محاولة أخري لتمثيل جيل جديد من السياسيين , قادمين من عالم الأعمال و شغوفين بالسياسة بفضل الأفق الذي فتحته ثورة الحرية وهو اليوم لا يغادر منذ قبول ترشحه وبعد إعلانه استعداده للمنافسة بنديّة سجنا حتي يفتح في وجهه آخر.
تشكّل الشّبكة التونسية للدفاع عن الحريات أنهت جدلا عقيما حول العمل المشترك بين الأحزاب السياسية و منظمات المجتمع المدني كان سببا في شلّ الفضاء الديمقراطي الاجتماعي الذي سعي دون نجاح للبروز كخط سياسي مستقل عن الدساترة و الإسلاميين و هي خطوة في الطريق الصحيح و الصعب بعد وأد مبادرة رباعي الحوار الوطني لسنة 2022 و هي مختبر لبناء يسار سياسي جديد ضروري للمشروع الديمقراطي التونسي .
وحين نقف عند الموقف الإيجابي للنخب الجامعية و الحقوقية من أساتذة القانون بأجيالهم المخضرمة و الشابة عبر جمعياتهم كجمعية القانون الدستوري و اتحاد القضاة الإداريين ثم عريضة ال120 باحث و جامعي نرصد تسارعا في تحول ميزان القوي في أوساط النخبة العالمة ضد الرئيس قيس سعيد بعد أن انقسمت هذه النخبة نفسها حول الموقف منه مرتين الأولي سنة 2019 و بعد 25 جويلية 2021 وهو اليوم قد خسر الحقل الجامعي وهي خسارة وازنة لأنه سليله وصار اليوم في صراع معه على أرضية القانون و القيم .'' الأستاذ'' اليوم شبه وحيد في بيته الأصلي أي الجامعة بسلطتها العلمية و وقارها .
فضاء الإعلام البديل من جهته مرجلا يغلي عبر مبادرات خلاّقة و شجاعة وهو بصدد فك الحصار عن الفضاء العمومي و خوض معركة الثقافة الديمقراطية بلا كلل .
ربط هذه التّعبيرات السّياسية بالجسم الاجتماعي يسمح لنا أن نقرأ تشكّل حوامل أولي للمقاومة من النّخب و الفئات الوسطي المتعلمة و من نساء و شباب نشط و رافض للوصاية و الأبوية و هو وإن لم يستعد وهج ''مانيش مسامح '' كلحظة تألق نوعية يتابع في جزء منه ما يجري في العالم من مدّ ديمقراطي مناهض للشعبويات و الأنظمة التسلطية ويعلم أن مقومات عالم أفضل وعادل هي اليوم بيد الشباب .
بشكل مختزل تبدو النخب أقدر على خوض معركة الأفكار و القيم الديمقراطية و الانتصار فيها على حساب الخطاب الرئاسي و استراتيجية التخوين و نظريات التآمر ورغم أن هذا الانتصار هو انتصار أفكار لم تكتسب بعد قوة مادية في الشّارع فهو منجز لا بدّ من البناء عليه . فانتصار الفكر الحر بين مواطني كلّ مجتمع هومن شروط كرامتهم .
في مستوي آخر أرقام تقرير المنتدي لشهر أوت كشفت ارتفاعا في حجم التحركات الاحتجاجية بلغت 234 تحركا جلها ضد التشغيل الهش و الغضب من تقسيط المياه و توزعت على العاصمة و الجنوب و الوسط و الشمال الغربي وهو خط ارتدادات اجتماعية مستمر. ّ
رغم تشتتها وقلة مواردها وكل تبعات المرحلة السابقة تبقي الحركات الاحتجاجية فاعلا اجتماعيا يبحث عن تحديد خصمه و هي السلطة القائمة و صوغ مطالبه وهي التشغيل و الخدمات الأساسية أي أنها تعيد تنزيل الصراع الاجتماعي ضمن المضمار السياسي ولم تعد ترضي بمغالطات الخطاب و توظيف الانفعالات الحزينة و انتظار المنة و الحلول الواهية .
صعود نبرة الاتحاد وطرح فرضية الإضراب العام , إدانة الهيئة الوطنية قرار هيئة الانتخابات علامات على حركية أجسام اجتماعية أخري .
ختاما لقد تكررت في المرحلة السابقة علامات الإحباط و الشعور بالعجز لدي النخب الديمقراطية و نلمس اليوم بوضوح خطوط تعبئة ما فتئت تتوسع تدور حول محاور عدة و تتقاطع عبرها فئات اجتماعية متنوعة و إذا ما نظرنا الي الانتخابات كتتويج للفعل الديمقراطي و المدني المستمر في الفضاء العمومي و التي لا تهم في حد ذاتها كإجراء بل كتجربة و تمرين على المنافسة و التعددية فالأفضل هو الإقرار المسبق بزيف محطة 6 أكتوبر و دفع التونسيين للمقاطعة . فالرّهان هو نسبة إقبال ضعيفة تربك مشروعية الفائز المعلوم مسبقا و حكمه لاحقا . لأننا سندخل بعدها مرحلة مقاومات مباشرة لا بدّ أن ننجح في بناء سرديّاتها .