أستاذة الحضارة والدّراسات الجندريّة آمال قرامي ونسّقت مقالاته التي تمثّل مجموعة من البحوث التي اشترك في إنجازها عدّة باحثين عرب،. وتندرج هذه البحوث في إطار تطوير دراسات الجندر الّتي ظلّت منذ نشأتها منشدّة إلى النّسويّة، ساعية إلى تفكيك بنى الهيمنة الذّكوريّة دون إمعان النّظر على نحو عميق في عوالم الذّكورة وكيفيّة صناعتها . غير أنّ الباحث في النّوع الاجتماعيّ يتبيّن أنّ الدّراسات الذّكوريّة والدّراسات الرّجوليّة قد تأسّست في الغرب منذ ثمانينات القرن الماضي، «وبعد عقود بدأ اهتمام الدّراسات وعدد من الدّارسين العرب بإخضاع الهويّة الجندريّة والأنماط الرّجوليّة والذّكوريّات للتّحليل.» ونعدّ هذا الكتاب تجديدا بالغ الأهمّيّة في مجال البحث العلميّ لأنّه قائم في أساسه على زعزعة مجموعة من المسلّمات ونقضها والدّعوة إلى مراجعتها:
- المسلّمة الأولى أنّ الرّجولة نمط واحد قائم على مبادئ الهويّة وانعدام التّناقض والثّالث المرفوع. وقد حرصت مؤسّسات المجتمع الخياليّة على صيانة هذه المبادئ المنطقيّة وترسيخها من أجل حماية ثوابتها عن طريق إقامة الحدود وتثبيت الجواهر وإقصاء كلّ ما يهدّد رأسمالها الرّمزيّ، حتّى ترسّخ في الأذهان أنّ الرّجل واحد، وأنّه ذو ماهية ثابتة، تجازيه المؤسّسات الرّسميّة بإكسابه سمة «الرّجل» كلّما خضع لشروطها وراكم المزايا الّتي تحدّدها له، وتعاقبه بسلب هذا الوسم كلّما شذّ عن سمتها الذّكوريّ المرسوم واقترب من هاوية الأنثويّ. غير أنّ هذه المسلّمة سرعان ما تعرف حدودها ما إن ننظر في أنماط متعدّدة من الذّكورات الّتي انضوت ضمن المسكوت عنه كالرّجولة الخاضعة والرّجولة المنبوذة والرّجولة المتواطئة والرّجولة المؤنّثة، وغيرها من الأنماط الّتي تعارض نمط الرّجولة المهيمنة السّائد.
- المسلّمة الثّانية أنّ الرّجولة ترادف الذّكورة، وأنّها معطى طبيعيّ وليس الثّقافيّ سوى نتيجة حتميّة للوجود البيولوجيّ، وأنّ الرّجال قد ولدوا رجالا، والنّساء قد ولدن إناثا. وهذه المسلّمة الّتي أدركت ضعفها منذ أن بيّنت سيمون دو بوفوار أنّ «المرأة لا تولد امرأة وإنّما تصير كذلك»، مازالت متغلغلة في المخيال الجمعيّ، تغذّيها نزعة الهيمنة الّتي تتأسّس عليها المجتمعات الأبويّة، في حرص غير منقطع على حماية الاكتمال الذّكوريّ وغلق دائرته إزاء كلّ العلامات الّتي يمكن أن تطمس تمثيلاته. لكن تتهاوى هذه المسلّمة كلّما أعدنا النّظر في أساليب التّنشئة الاجتماعيّة فاتّضح لنا أنّ الرّجولة صناعة ثقافيّة تشترك في إقامة بنيانها السّلطة في مختلف مظاهرها: المجتمع، والأسرة، والمدرسة، والأخلاق، والدّين، والدّولة، والقانون. وحسبنا النّظر على سبيل المثال في الكتب المدرسيّة الموجّهة إلى متعلّمي المرحلة الابتدائيّة لنرى مثالا جليّا من أمثلة تقسيم الأدوار في الفضاء الاجتماعيّ حيث يُعهد إلى الأب العمل خارج المنزل وقراءة الصّحف في حين تتولّى الأمّ في أغلب هذه النّصوص طبخ الطّعام وتنظيف البيت. وبالنّظر في نماذج متنوّعة درسها الباحثون في كتاب أنماط الرّجولة تتجلّى لنا كيفيّة صناعة هذه الهويّة، وذلك عبر مرحلتين أولاهما تقوم على صناعة التّمثّلات البارزة في علامات تكشف عنها اللّغة كالقوّة والشّدّة والصّلابة والقسوة والعقلانيّة والعنف والقوامة والمسؤوليّة وقمع العاطفة، وثانيتهما مجموعة من الأدوار ذات الطّابع الإنجازيّ ينبغي أن يؤدّيها الرّجل لاستحقاق هذه الصّفة. وتتولّى المؤسّسات الرّسميّة أعمال المراقبة والعقاب، مراقبة السّلوك والأداء، ومعاقبة كلّ مارق من الحدود بالوصم والإقصاء.
- المسلّمة الثّالثة أنّ الرّجولة ترادف القوّة والحرّيّة والسّيادة، غير أنّ القارئ لن يفرغ من قراءة هذا الكتاب قبل أن يرى هشاشة الذّكوريّ وخضوعه لشتّى ضروب القيود. فالرّجولة بنية تتأسّس على القهر والرّضوخ للهيمنة، وهي مسار عسير يُدفَعُ فيه الإنسان، منذ طفولته، إلى محاولة إثبات الصّفات الّتي يرتضيها المجتمع وتفرضها التّنشئة. ويكشف السّعي المتواصل إلى إثبات هذه الصّفات عن خوف دفين من الخصاء الرّمزيّ. ومحرّك الخوف لا يمكن أن يربّي إنسانا حرّا. ومن حيث تحاول الهيمنة الذّكوريّة منح الحرّيّة إلى الرّجال على حساب النّساء، تحمل في داخلها علّة نفيها، وتصنع رجالا يحملون في بواطنهم الرّهبة من الأنثويّ، والفزع من الخصاء.
- المسلّمة الرّابعة أنّ الذّكوريّ يناقض الأنثويّ، وينفيه. غير أنّ هذه المسلّمة لا تصمد طويلا أمام النّظر في أنماط من الرّجولة المؤنّثة، بعضها عقد علاقة مصالحة مع الأنثويّ الكامن فيه، مستوعبا مفهوم الأندروجين، وبعضها عرفت هويّته الجنسيّة ارتباكا تعدّدت عوامله، فقبل علامات التّخنّث واللّين والرّقّة والتّثنّي، وسعى إلى الدّفاع عن هذه الهويّة الجديدة متحدّيا الهيمنة الذّكوريّة.
ومن حيث المنهج يتميّز كتاب أنماط الرّجولة بتنويع المقاربات تنويعا يفتح أفق البحث نحو استثمار أدوات تحليل مختلفة تستدعيها المصادر المدروسة. ومن هذه المقاربات المعتمدة الدّراسات الذّكوريّة والدّراسات النّسويّة والمقاربة الجندريّة والمنهج الاجتماعيّ والمقاربة التّاريخيّة والمنهج النّفسيّ. وتجدر الإشارة إلى أنّ ما يبرز القيمة المعرفيّة لمقالات هذا الكتاب هو تعدّد التّخصّصات وانفتاح المقاربات بعضها على بعض انفتاحا يواكب حركة الدّراسات البينيّة ويستفيد من التّعالق بين مناهج العلوم الإنسانيّة. ويتأسّس هذا التّعدّد المنهجيّ على تنوّع في المراجع المدروسة والوثائق الّتي مثّلت موادّ بحث، كالأدب والصّورة والمسرح والدّراما التّلفزيّة والأشرطة الوثائقيّة ووسائل الإعلام.
وبإعادة قراءة مقالات الكتاب مجتمعة، يمكن أن نصنّف أنماط الرّجولة المدروسة حسب منطق العلاقات المحكوم بالصّراع والمحاورة والاستسلام. إذ لا شكّ في أنّ بناء الرّجولة أو سلبها يستند في بنيته العميقة إلى صراع القوى ومحاولة تبادل المواقع، فتقوم العلاقات على الهيمنة والتّراتب، أو على التّبادل والانفتاح، أو على الخضوع والتّواطؤ:
1 - علاقات التّراتب: الرّجولة المعياريّة المهيمنة:
يبرز أنموذج الرّجولة المعياريّة المهيمنة في خمسة أنماط أساسيّة تختلف في مراجعها، وتتشابه في تمثّلاتها وطرائق صناعتها. ويمثّل هذه الأنماط الصّعلوك في الشّعر القديم والألتراس في ملاعب كرة القدم ، والزّوفري في المجتمع التّونسيّ وصورة الذّكر المتسلّط في بعض الأعمال المسرحيّة ، وصورة السّجّان في بعض الأعمال التّلفزيّة . استند خالد عبداوي إلى شعر الصّعاليك ليفكّك بنيان الفحولة الرّاسخ في الثّقافة العربيّة القديمة مستعينا بمفاهيم أساسيّة في دراسات الذّكورة، كالذّكورة المهيمنة والذّكورة المهمّشة، وتوصّل إلى تبيّن تعدّد النّماذج الرّجوليّة في هذا الشّعر كالرّجولة المقاتلة، والرّجولة المقاومة والرّجولة الخاضعة والرّجولة المتواطئة. ودرس رضا كارم نمطا حديثا من الرّجولة المهيمنة جسّمته جماعات الألتراس في ملاعب كرة القدم، واعتمد في هذه الدّراسة على مفهوم الانزياح الرّجوليّ من الهامش إلى المقاومة، ويتشابه هذا المسار مع ما درسته هدى بحروني في أنموذج الزّوفريّ من النّبذ إلى الفخر بالنّفس. في حين تقترب صورة الرّجل المتسلّط في دراسة سوسن وهبة أنماط الرّجولة عند الكاتب المسرحيّ من صورة السّجّان في بحث ضو سليم لبناء الرّجولة في السّجن من خلال الدّراما التّونسيّة. ونرى اشتراكا في بنية الهيمنة الّتي صنعت هذه الأنماط لمرور بعضها من التّهميش إلى التّمرّد، واستبطان بعضها الآخر بنية الهيمنة وإعادة إنتاج أشكالها. فقد كان للصّعاليك وجود هامشيّ وهم الثّائرون على نظام القبيلة وعلى طرائق تقسيم الثّروة، وقد أطردتهم قبائلهم وتبرّأت منهم، فسعوا إلى صناعة قيم ذكوريّة جديدة توازي قيم القبيلة وتسعى إلى منافستها. والأمر نفسه في ما يتّصل بالزّوفري المنبوذ من مجتمعه يلاحقه الوصم والنّفي، وكذلك أنماط الألتراس المارقة من القانون الماضية في صراع مستمرّ ضدّ كلّ ما يمكن أن يهدّد وجودها. ويبدو أنّ التّهميش دافع إلى البحث عن هيمنة جديدة لا يمكن أن تجد سبلها إلاّ بالتّوحّد والاجتماع وإعادة صناعة هويّات جديدة. ومقابل ذلك يعيد الرّجل المتسلّط صناعة الهيمنة مستفيدا من السّلطة الّتي منحها إيّاه المجتمع فيوجّهها نحو المرأة محاولا شطبها والحدّ من حرّيتها، وهي الهيمنة الّتي تتجدّد أسسها كلّما تغيّر الفضاء، ففي فضاء السّجن يسعى السّجّان إلى إخضاع المساجين لسلطته مستبطنا بنية التّراتب من أجل إعادة تدريبهم على اكتساب مزايا الطّاعة والانصياع والاستسلام.
2 - علاقات التّبادل.. الرّجولة المؤنّثة والإناث المسترجلات:
يكشف بحث أميمة أبي بكر عن نمط آخر من الرّجولة تتّصف به النّساء الصّوفيّات في تراجم السّلميّ . وإذا كان التّصوّف الذّكوريّ قائما، في نظرنا، على قوّة الأنثويّ المجسّمة في العشق والشّوق والحلول والذّوبان، -وهو يعارض بذلك ذكورة الفقه الرّسميّ-، فإنّ ما لفت انتباهنا في دراسة أميمة أبي بكر، انفتاح النّساء المتصوّفات على العلامات الذّكوريّة. وهو ما يعني أنّه لا وجود لحدود فاصلة بين الأنثويّ والذّكوريّ من ناحية، وأنّه لا وجود لماهية ثابتة مغلقة من ناحية أخرى. ويبدو أنّ لهذه الصّفات ما يبرّرها، نعني بذلك إعادة صياغة أنموذج المرأة الفاضلة، بأن تُنفى عنها علامات الأنوثة حتّى تُنَزَّه عن الوجود الجنسيّ ولا تمثّل مصدر رغبة. فالنّساء اللاّئي نذرن أنفسهنّ لله يقتربن في صلابتهنّ من الرّجال ويصبح هذا الوسم تمييزا لهنّ وإعلاء من شأنهنّ. ويقابل هذا النّمط أنموذج آخر يقوم على مناقضة الحبّ الصّوفيّ، ويجسّم عنف الكراهية واشتداد الحقد، تجسّمه مجرمات الحرب من الجنديّات ذوات الرّجولة المفرطة الّتي تتجاوز حدود القسوة إلى الاستمتاع بالتّعذيب. وهو ما درسته الأستاذة آمال قرامي من منظور نسويّ، معتمدة وثائق فضيحة سجن أبي غريب . لقد طرحت صور تعذيب السّجناء العراقيّين، بما فيها من انعدام للإنسانيّة، عدّة تساؤلات كان مردّها إلى صدور أعمال التّعذيب الوحشيّ عن نساء لم تعد صفات الجنس اللّطيف تناسبهنّ. وقامت هذه الأعمال في معظمها على الإذلال الجنسيّ، وهو ما يكشف عن استبطان الرّجل الأبيض لفكرتين لم يفلح في إنكارهما: اعتبار الفعل الجنسيّ تعبيرا عن قوّة الذّكورة وإخضاعا للمرأة، والنّظر إلى المرأة نظرة دونيّة، يشهد بذلك استعمال خواصّها في إهانة السّجناء وكسر رجولتهم. وهو ما يعني إعادة إنتاج نظام الهيمنة إنتاجا مشوّها ومفرطا يرمي إلى الإخصاء رمزيّا ومادّيّا. وما يجعل هؤلاء النّساء موضع مساءلة هو مدى خضوعهنّ للمؤسّسة العسكريّة وتحديد هويّاتهنّ الجندريّة حسب الأدوار الّتي يؤدّينها. وهذان النّمطان المتعارضان، أي النّساء المذكّرات، يتأسّس وجودهنّ، رغم ما بينهنّ من تقابل، على الإفراط، هو الإفراط في الحبّ حتّى الذّوبان، وهو الإفراط في الكراهية حتّى القهر. ويقابلهنّ الرّجل الّذي يزاوج في أعماله بين الذّكوريّ والأنثويّ، يجسّده في الفنّ الرّاقص رشدي بلقاسمي الّذي جمع إلى لباس الدّنقري الممثّل لهويّة الزّوفري في الرّأي السّائد، حركات الرّقص النّسويّ على نحو يربك الحدود الفاصلة بين الرّجولة والأنوثة، وهو من الأنماط البارزة في دراسة هدى بحروني. وإنّ هذا التّبادل بين الأدوار وسقوط الحدود يثبت مرّة أخرى أنّ الهويّة الجنسيّة صنع ثقافيّ وبناء تتدخّل في تشييده عدّة عوامل.
3 - علاقات الخضوع: الرّجولة المضطهدة:
تعدّ أنماط الرّجولة المضطهدة من الأنماط المسكوت عنها، لما يمثّله وصفها من هزّ لأركان الهيمنة الذّكوريّة وحطّ من شأن الرّجال كما تترسّخ تمثيلاتهم في اللاّوعي الجمعيّ، لذلك يعاقب هؤلاء الرّجال بسلب سمة الرّجولة منهم عبر وصمهم وإقصائهم، أو بالزّجّ بهم في عوالم الضّحك والهزل والتّندّر، وهو ضحك يكشف عن التّبرّؤ منهم ووسمهم بالشّذوذ. وقد اهتمّت الباحثة هاجر خنفير، بدراسة هذا النّمط أي الرّجولة المضطهدة داخل مؤسّسة الزّواج ، معتمدة بحثا ميدانيّا بيّن تعرّض عدد من الرّجال إلى العنف الزّوجيّ، رغم سعي أغلبهم إلى الإنكار، ويمثّل هؤلاء الرّجال نمط الرّجولة الخاضعة. وسعت الباحثة إلى تفسير الأسباب الّتي دفعت إلى استبدال الهيمنة الذّكوريّة بالهيمنة النّسائيّة، فوصفت الأسباب الاقتصاديّة والاجتماعيّة والنّفسيّة والقانونيّة، وكذلك الجنسيّة. ويظهر نمط الرّجولة الخاضعة كذلك في نمط الرّجال ضحايا التّعذيب في السّجون، الّذي سبق ذكره في دراسة الأستاذة آمال قرامي، وهم يمثّلون صنف الذّكورة المسحوقة التي أدّى سحقها إلى سلب هؤلاء الرّجال إنسانيّتهم.
وإنّ النّظر في هذه الأنماط المتنوّعة، وفي غيرها كالرّجولة المؤذية والرّجولة المثليّة والرّجولة المتواطئة، يبيّن ثراء هذا المبحث ويكشف عن القيمة المعرفيّة الّتي يقدّمها كتاب أنماط الرّجولة، وهو في الوقت نفسه يقدّم رهانا رئيسيّا قوامه على كيفيّة تحرير الإنسان من شتّى صور القهر والهيمنة. وقد يتساءل القرّاء عن صلة الدّراسات الذّكوريّة بالسّعي إلى إعادة فرض هيمنة الرّجل بعد استئثار النّساء بمعظم الدّراسات الجندريّة والحرص المستمرّ على تحريرهنّ. غير أنّ المسعى إلى حفظ كرامة الإنسان لا يمكن أن يتحقّق إلاّ بإسهام الدّولة -باعتبارها المسيّرة للشّأن العامّ ولمختلف المؤسّسات- إلى تثبيت إنسانيّة الإنسان، دون تمييز جندريّ، ودون حدود فاصلة، وهو رهان مستمرّ يتحقّق بالنّضال الفعليّ عبر الكتابة والتّفكير وتحمّل شجاعة الحقيقة.