و دلالة التاريخين تاريخ الشّرارة الأولي ومجالها الجغرافي و تاريخ سقوط رأس السلطة ومجاله الجغرافي الرمزي قبالة وزارة الدّاخلية , ولا فائدة من الرجوع لخيار فرض 17 ديسمبر كعيد رسمي للثورة دون 14 جانفي وهو ليس قرارا خاليا من المعني بل يعكس قراءة للحدث الثوري نفسه وطبيعته الوطنية , و مآلاته , سبق أن عبّرت عن تبايني معه .
ما هو أهم و ألّح اليوم هو ومع الأسف العودة الي الحديث عن قلق من تدهور وضع حقوق الإنسان في تونس بعد أكثر من عقد من سقوط الاستبداد وحلم التحرّر التاريخي طال التونسيين و مهاجري جنوب الصحراء , وهي عودة لخط الدفاع الأخير قبل النكوص إما الي حكم تسلّطي مطلق مصادر للحقوق و الحريات كما قبل 2011 أو ديمومة المقاومة المدنية السلمية بصبر وتضحية وإن تعددت الانتكاسات حتي عودة الديمقراطية .
ذكري الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هذا العام تزامنت مع تصرحين حكوميين الأول لوزير الداخلية في تونس حول ضمانات حقوق الإنسان و التّعهد بتطوير التشريعات في اتجاه صونها و الثاني لوزير الخارجية في جنيف بمناسبة الاحتفاء الأممي بالذكري 75 لإعلان 1948 و عبّر للعالم عن مدي التزام تونس بمبادئ حقوق الإنسان الكونية و العمل على عدم انتهاكها .
في مناخ وطني يغلب عليه خطاب السيادة الوطنية الأصمّ بدت الحكومة ملزمة بضرب من النشاز البلاغي وضرورات الاحتفالية بإعلان الانخراط المنفتح في الرؤية الكونية لحقوق الإنسان وفق المعايير الدّولية و بالتالي اعتبار مدونة الحقوق الكونية ملزمة لها قيميا و معنويا في روحها و تفاصيلها و مبادئها , وهو ما يضعها فوق التشريعات الوطنية لأنها حاملة لإعترافات أعلي بحكم عالميتها حتي وإن تعذرت آليات الفرض الدولي لهذه الحقوق على الحكومة التونسية كما علي غيرها من حكومات العالم .
مفارقة كونية حقوق الإنسان المجردة و واقعيتها , معروفة و تحيلنا الي مقولة حنة ارندت '' الحق في أن تكون لنا حقوق " حيث لا سبيل للتمتع بالحقوق في ضل نظام شمولي لدولة وطنية تلغي الشّخصية القانونية للفرد بما هو مواطن حرّ كريم , فالأفراد اللذين لا يتمتعون بصفة المواطنة في دولهم يحرمون من الحق أن تكون لهم حقوق وعلي قياس المهجرين بعد الحرب العالمية الثانية و عديمي الجنسية , بعد حرمانهم من حكومات وطنية تحميهم يفقد اليوم مواطنو الدول الشمولية '' الحق في أن تكون لهم حقوق '' حتي وإن اقرت البشرية كونيّتها .
ذلك هو الوضع الذي يوضّح مفارقة حقوق الإنسان في تونس كتوتّر ممكن بين مثل عليا من جهة و سياقات التمتع الفعلي بها من خلال السياسات العمومية في أجيالها الثلاث سياسيا و اجتماعيا وثقافيا من جهة أخري . فضلا عن توتّر ثاني سوسيو- تاريخي , يخترق المجتمع بين تيار تحرري يؤمن بهذه الحقوق وتيار محافظ يرفضها .
علاقتنا اليوم نحن في تونس بالدولة الوطنية بدستورها و أجهزتها يضعنا في منزلة بين المنزلتين فدولتنا لا تنكر علينا نظريا الحق في أن تكون لنا حقوق , ولكنها تضعها معلقة في سماء المنشود و غمام اللغة و تشرّع و تحكم و تسيّر شؤوننا بمشيئة رجل واحد جمع أو يكاد بحكم الدستور كل السلطات ولا يولي اهتماما لوجود معارضة وفرض مناخ حرب شاملة أصبح فيه وصم مناضلي الحرية و حقوق الإنسان بالخيانة و العمالة و التغرّب و الفساد , مباحا و مألوفا .
ومع ذلك حتي وإن كانت إعلانات الحقوق فقط عمليات خطابية فهي تورط الحاكم من خلال التأكيد على "الحق العالمي '' لأنها تضعه أمام مرآة خطابه المعلن ، فالجملة الحقوقية ليست عديمة المعني و هي إقرار بأن ادعاء السياسة الديمقراطية غير ممكنة دون قاعدة حقوق إنسان , فالخطاب السياسي الرسمي لم يعد ممكنا في تونس دون القبول مشهدياّ على الأقل بمعجمية حقوق الإنسان في تونس وفي المنتظم الأممي .
ففي عالم يندر فيه السياسيون المجاهرون برفض حقوق الإنسان في حد ذاتها، كمرجعية معيارية و تشريعية تقوم عليها الدول الديمقراطية القائمة على سيادة القانون. تسعي منظومة الحكم الحالية الي تفسير السيادة الشعبية على أنها سيادة وطنية، لا سيادة مواطنية أي تضع الشعب والأمة ومتخيّل الوحدة المقدّسة فوق وقبل الإنسان كذات ، وفي نفس الوقت تشهر خطاب الحقوق , ذلك وجه من وجوه تخبّطها وهي عديدة في الاقتصاد و السياسة الخارجية و الحوكمة لا مجال لعرضها هنا .
فهل مثل هذه السكيوزفرانيا قابلة للحياة طويلا ؟ هل تمكّن منظومة 25 جويلية من هيمنة ثقافية '' ايديولجية '' منسجمة كما تسعي هي الي ذلك , أم هي فقط هيمنة بلاغية لا تولي اهتماما لتهافتها و ضعفها و تناقضاتها وقابلة للسقوط ؟
التذكير بالرّيادة التونسية في مجال حقوق الإنسان إسلاميا وعربيا و بمدونة النضال الحقوقي قبل تأسيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في سياق موجة انفتاح , وبعدها على أهميته , ليس هو أرضية النزاع مع الدولة .
اليوم ننطلق من بداهة : لا يمكن لدولة عصرية أن تنشأ وتعبّر عن مجتمع سياسي قائم على التعاقد فقط بقوة أجهزتها أي دون إقناع ورؤية و من تبهره قوة الأجهزة اليوم لم يقرأ جيّدا رسالة الحدث الثوري .
فنحن تعهدا بقيم الثورة نعتقد أن مجالات الصراع اليوم , بين مجتمع مدني مستقل ضعيف ودولة جامحة للسيطرة , حول الحقوق تفترض مسارين اساسين , الأول فكري و الثاني تعبوي , في ضل غياب مسار تشريعي ديمقراطي يوقف'' نشيد الاستبداد '' كما جاء في تقرير الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية , وهو مسار فقد فيه المجتمع المدني و النخب الديمقراطية و القوي الاجتماعية موطئ قدم فاعلة في ضل حدود البرلمان الحالي , و الإرادة التشريعية الفائضة لدي رئيس الجمهورية دون تشاركية بل بتجريبية بينت حدودها أكثر من مرة و كشفت نوايا غلق الفضاء العمومي و التوّجس من التعدّد .
علي المستوي الفكري إذن من الضروري دفع النقاش و المحاجة مع ذهنية الدولة الحالية الي أقصاه لحملها إما على التخلي العلني عن الاعتراف بالحقوق ونزع أقنعتها و مواجهتها كدولة تسلطية تنظر للمجتمع كوحدة صماء لا مكان فيها للفرد الحر و لا للتنظيمات المدنية و الحزبية , و تجعله مدينا في أمنه وسلامته لسلطة الزعيم وقوة قبضته , أي أنها لا تعدّه مجتمعا سياسيا قائم على التعاقد , أن تختار الدولة نهائيا هذا النّهج هو بضرب من المفارقة أفضل للصراع الفكري ضدها كدولة سلطانية لا حديثة لا دور فيها للمؤسسات ومنفصلة تاريخيا عن مسار دولة ما بعد الثورة وعائدة الي حكم الفرد .
أو حملها على تبني فلسفة وثقافة حقوق الإنسان قولا وفعلا و العمل على نشرها و احترامها , حينها سيكون من السهل تفكيك ما يعتبره دعاة المسار مشروع رؤية جديدة للديمقراطية قوامها المساواة بين المواطنين و البناء القاعدي ورفض التنظيمات الجماعية الوسيطة , لأن حكم الفرد عموديا يتناقض مع هذا التصور الفكري الذي يفترض فتح المجال أفقيا أمام المواطنين بعيدا عن هيمنة النخب .
جرّ الماسكين بالحكم الي هذا الجدل الفكري حول معني الديمقراطية و معني الحقوق و معني المواطنة يعني مغادرة براديغم الشرعية الشعبية و منطق الأغلبية وسلاح الترهيب لنقاش الأفكار أولا , ففي حضرة الفكر لا غلبة إلا للعقل و الحجة ووضوح البيان وهو صراع يمكّن الأقليات من فرض صوتها حين يقف الجميع أمام محكمة العقل . مثل هذه المهمة موكولة للمثقفين و المفكرين و الإعلام المستقل .
المسار الثاني تعبوي وهو مربط الفرس الرّاهن في ضل اختلال موازين القوي الميدانية و حالة الإجهاد التي عليها المجتمع و الخيبة التي أصابت النخب و الطبقة الوسطي و فقدان الفقراء و الهوامش قوة دفع مادية تحوّلهم الي فاعل سياسي , وتواصل الثقة العفوية في شخص رئيس الجمهورية المتعهد بالحرب على الفساد . فماهي فرص و سبل تعبئة مجتمع مدني وسياسي مشتت و بلا بوصلة , و منهك على قاعدة الدفاع عن الخط الأخير ؟
بداية لا مجال للتوغّل اللاّسوي في إستيهامات السقوط الحتمي لمنظومة الحكم الحالي قريبا ولا في رومنسية المقاومة البطولية حتي الرمق الأخير و النصر الحتمي , ما يضرّ بالمعارضة السياسية و بالمجتمع المدني هو توقع قيام ثورة الشارع مرة أخري , وما يصيبهما بنوع من التوحّد هو تخيل أنها ثورة قريبة , وما يزيد , مرارتهما و غضبهما هو عدم فهم هذا الخنوع الشّعبي رغم كلّ اخفاقات الدّولة .
ما هو ممكن ولازم هو الانطلاق من خط الدفاع الأخير وحماية ما بقي من فاعليات تعمل بحرية وفي مجالات عدة و عدم السعي لتجميعها في بوتقة واحدة ولا وراء زعيم وهمي ولا حول أرضية دنيا تطمس تنوعها الخلاّق . ولأن حقوق الإنسان هي شرط الديمقراطية وليست هي مشروع و أداة التغيير السياسي من المهم العودة اليوم لفكرة الحوار الوطني بعد ملاءمتها لما هو مرتقب و ملائم للواقع الجديد .
ليس الحوار الوطني المقصود هنا حوارا وفق منوال 2014 فهذا غير متاح وغير واقعي وغير ملائم لاستحقاقات المرحلة , ولا هو وفق منوال ومنهجية المحاولة الأخيرة لرباعي المجتمع المدني الموءودة والتي رفضها رئيس الجمهورية قبل إعلانها وعجز أصحابها عن إنقاذ أرضيتها حتي في شكل منتدي دائم للتشاور , ولا هو أيضا وخاصة تكرار لصورة ''النزاع العالق '' بين الإسلاميين و العلمانيين ضمن تجربة 18 أكتوبر 2005 , بل هو حوار بين رؤي مختلفة حول العشرية وحول الأزمة الحالية وحول سبل الخروج منها
بينت التجربة لا فقط منذ 25 جويلية بل منذ 2011 عن وجود هوة عميقة بين المطلب الديمقراطي المعلن من جهة، ووجود رأي عام داخل الفضاء العمومي يدافع عنه , بقدر ما بينت هشاشة هذا الفضاء العمومي و تمزقه كلما صعدت الهويات الإيديولوجية و المصالح وخدعة الانتصارات المؤقتة
إعادة التفكير في جدوي النقاش العمومي تعني الاستفادة مما بينته التجربة من إخفاقات و تعني عدم العودة الي نقاش عمومي شكلي أو إقصائي , وعدم المراهنة السريعة على تفاعل الدولة معه بل على جاهزية المجتمع للديمقراطية التعاقدية كشكل من أشكال العيش المشترك الذي يعيد بجرأة شرعية النقاش حول مجمل القضايا
فعدم جاهزية وقبول الدولة بالحوار و سعيها الي إعدام شروطه المؤسساتية و الأنثروبولوجية و حتي النفسية بإشاعة الخوف و الكسل من الاستخدام العمومي الحر للعقل , لا يعني تخلي المجتمع عن تطوير جاهزيته هو الذّاتية للحوار ونحن نخال المجتمع التونسي لا زال متملّكا لمقومات تطوير هذه الجاهزية
فالتعبئة المقصودة من فكرة الحوار الوطني اليوم ليست إرادوية موجهة نحو شارع غير جاهز و لا انتظارية سلبية موجهة الي رئيس يؤمن بسلامة نظام حكمه و جدواه ولا يحتاج رأيا مغايرا بل هي بمثابة خطوة ضرورية لمشروع رؤية جديدة تتعهد مهام الحاضر و تستشرف سيناريوات المستقبل وهي عديدة في ضل الأزمة المركبة الداخلية و التحولات الجيوبوليتيكية المرتقبة في المنطقة و العالم .
المهم أولا تقاسم القناعة بحماية خط الدفاع الأخير والتفكير في الأطر و الآليات و المراحل العملية سريعا .
.