طريقا حيويا على مر العصور وعاصمة للملك "جرجير"، يحيا الناس بقلوب كبيرة وبأحلام بسيطة. هناك، حيث الأساطير والآثار و"قوس النصر"، ولد "حبيب غرايسي" في حيّ "الملاجي" الشعبي. وهناك، في تلك الشوارع الضيّقة والأزقة المزدحمة بالهموم أكثر من الغيوم، تعلّم فنّ الإصغاء إلى الناس، إلى الغضب الساكن في عيونهم، إلى الوجع الدفين في صدورهم... فنطق بلسانهم في أغنيات وصرخات "راب" وانتفاضة كلمات...
عندما يرتدي "حبيب غرايسي" ثوب فنان الراب فإنّه يضع قلادة ذهبية اللون تتدلى منها نقيشة تجسّد وجه ذئب. كما اختار أن يكون الذئب مرادفا لاسمه الفني:" HB Wolf". ولهذا الفنان مع الذئب حكاية شبه في الطباع وتشابه في الخصال، ويكفي الذئب فخرا أنه لا يُدّجن ولا يُروّض ولا يُقاد إلى السيرك !
لقب الطفولة يتحوّل إلى هوية فنية
يقول الشاعر التونسي منوّر صمادح "عندما كنت صغيرا كنت أحبو الكلمات...كنت طفلا ألعب الحرف وألهو الكلمات"... وفي الحيّ عندما كان حبيب غرايسي صغيرا كان يحبو ويلهو وراء الكلمات وأحيانا وراء شغب الطفولة وحماقاتها البريئة. لكنّه كان القائد، وكان الأكثر ذكاء ودهاء بين رفاقه حتى أطلقوا عليه كُنية "حبيب الذيب". فكبُر "الذئب" مع الطفل الذي صار فنانا لا ليعزف منفردا بل ليقود المجموعة على درب الفن والحرية إلى ضوء القمر، إلى رقصة الضجر، إلى تمرد الغجر...
في حيّ "الملاجي" بسبيطلة حيث تختلط الروائح والأصوات والحكايات، نشأ حبيب غرايسي في تقاسم لشغف كرة القدم مع أقرانه وجيرانه، ومن الشارع تعلّم كيف يكون حيّا، ومن الفنّ تعلّم كيف يكون إنسانا. وعندما اكتشف ثقافة "الهيب هوب"، لم يكن ينجذب فقط لإيقاعات الموسيقى، بل لما تقوله الكلمات من رسائل ألم وأمل ومقاومة. في دار الشباب بسبيطلة، بدأت قصته مع الفن، ومع ذاته، ومع مسار حياته الفنية والمهنية. بمنتهى الوعي في الاختيار وبكل إصرار، التحق حبيب غرايسي بالمعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي ببئر الباي، لتكون رسالة الماجستير في إدارة وتسيير المشاريع الثقافية محطة فارقة في مسيرته لا لأنها انجاز أكاديمي بل لأنها نافذة على رؤية أرحب وأنجع في تحويل الحلم إلى مشروع والمعرفة إلى أثر ميداني والفن إلى خارطة تغيّر تموقع الزمان والمكان والإنسان.
الراب .. الصدى الصادق
يكتب حبيب غرايسي ويغنّى ويقف على خشبات المسارح، ويشارك في مهرجانات من الشمال إلى الجنوب، حاملا اسمه الفني HB Wolf. ولكنّه لا يهتم بالشهرة والنجاح الفردي، بل يؤمن بقوّة المجموعة وبضرورة التواصل بين الأجيال. فأسّس سنة 2016 جمعية "ستريت آرت سبيطلة" مع رفيق دربه الراحل أمين الهلالي، فاحتضنوا عشرات المواهب المغمورة والطاقات المهدورة، وأطلقوا "مهرجان آور ستريت"، الذي صار موعدا سنويا لهواة الثقافة البديلة.
يقول محمدود درويش"الموت لا يوجِعُ الموتى، الموت يوجع الأحياء" ورحيل أمين الهلالي كان طعنة في صدر صديقه حبيب غرايسي، لكنه لم يتوقف الحلم، وواصل حبيب الطريق، فأسس جمعية "فكرة" سنة 2022 التي لا تزال إلى اليوم تحمل شُعلة الأمل والعمل من أجل الجهة والشباب وجيل أفضل.
في لحظة وجع أو بوح أو فرح أو خيبة أمل، ينعزل حبيب غرايسي في غرفته ويكتب على هاتفه كلمات أغنيات الراب قبل أن تنفلت من بين أصابعه، وقبل أن تفقد توّهج شعورها بكل تدفقها النفسي والعاطفي والاجتماعي والسياسي... إنها لحظة مرهقة جدا لكنها صادقة في حراسة الحلم حتى لا يموت !
طريق الهطايا... درب سمّامة
في مشوار الحياة، يحدث أن تتقاطع المسارات والدروب وأن تتصادف الوجوه فتتنافر وتنفصل أو تتحابب وتتصل في علاقات تواصل إنساني أو فني... وعندما التقى الناشط الثقافي والفنان حبيب غرايسي بمؤسس المركز الثقافي الجبلي للفنون والحرف بسمّامة عدنان الهلالي عثرا على رؤية مشتركة وثورية للفعل الثقافي فاتفقا على التعاون والسير معا في "طريق الهطايا" وطريق الهندي" و"طريق الحلفا"... وقد تمّ توثيق هذه التجارب النادرة والخيارات الاستثنائية في أغنيات راب من بطولة سيّدات الأرض الكادحات وسكان الجبل الصامدين والرعاة الفنانين والمارين الذين لم يكونوا من جبل سمّامة مجرد عابرين بل تركوا ذكرى أو قصة أو عطرا..
من الحيّ الشعبي إلى الجبل الذي صار عنوانا للإبداع الذي يزرع الثقافة في الصخر ، يؤكد حبيب غرايسي أنّ المركز الثقافي الجبلي بسمّامة كان ترجمة حقيقية لصدق الفن الذي ينبت كالسنابل من الأرض. ويصف تجربة صداقته برفيقه عدنان الهلالي منذ سنوات، والتحاقه بالمركز ومشاركته في عيد الرعاة بمثابة الدرس بأنّ الفن إن لم يكن صادقا، لا يمكنه التأثير وبالتالي التغيير.
في الدورة 35 لأيام قرطاج السينمائية تابع الجمهور خمسة أفلام وثائقية تمّ إنتاجها في إطار إقامة « رؤى متقاطعة » التي نظمها مشروع « تسير » بالمركز الثقافي الجبلي بسمّامة سنة 2024. وكان من بينها فيلم "بروفا" لمحمد مباركي وحبيب غرايسي الذي تحدث عن مدينة سبيطلة وثقافة الهيب هوب وفن الراب بين الماضي والحاضر، بين الموجود والمنشود، بين مطالب مؤجلة وأحلام معلّقة على جدران مدينة حدودية مهمشة ترنو إلى الشمس بعيون الأمل رغم كل شيء.
ليس حبيب غرايسي فنان راب وناشط ثقافي فحسب، بل هو ابن الشارع وابن الجبل وابن الحلم... منذ زمن بعيد، لم يكن هذا الطفل الذي كان يُلّقب لذكائه بـ "حبيب ذيب" يعلم أنّ "ذئب الحيّ" سيغدو اسما فنيا وصوتا ثقافيا حرّا يؤمن بأنّ "الحرية الحقيقية أن تعيش كما أنت، لا كما يُراد لك أن تكون".