النحات يامن العبدلي صانع الجمال من الحديد والنار والخيال

قد يولد الجمال من تزاوج المتناقضات والتقاء الأضداد

فنحات الحديد هو صانع الروعة من القسوة، وباعث الحياة في الجماد، وكاتب حكايات من النار والشرر المتطاير... وبين يدي النحات يامن العبدلي تتحول كل قطعة معدنية إلى روح تنتظر ميلادها، وكل ضربة مطرقة وإزميل إلى ومضة فكر تسافر من المادة إلى المعنى. أوحت "الخردة" له بما لم تقله لغيره، فأصبح خبيرا في محاورة المعدن الأصم، وفي ترويض القبح ليستحيل إلى حسن، وفي توليد البهاء من قلب اللهب... تفيض منحوتات يامن العبدلي بشاعرية مرهفة كقصيدة من النور والنار، وكحصان أسطوري جامح إلى الخيال، وكطائر محلّق جناحاه من الحديد لكنهما يرفرفان للأحلام...

بفضل سعة خياله وموهبة أنامله، يحول النحات يامن العبدلي "الخردة" والحديد المهمل إلى منحوتات جميلة ورقيقة، فحتّى الحديد مثل البشر يلين حين تلامسه يد اللين والحنان. من مواليد مدينة القصرين في مارس 1981، يشغل يامن العبدلي خطة مستشار تدريب بالوكالة التونسية للتكوين المھني. وعن مهنته يقول مازحا:" يكفيني شرفا أني صديق البيئة حيث أقوم بتخليصها من "الخردة" والتخفيف عنها من عبء مهملات تثقل كاهلها..."

صمت الحديد ، صوت الشرر... وبوح المنحوتات

إنّ النحات الذي يختار الحديد مادة خامة لأعماله ولأحلامه، ليس فنانا عاديا بل مبدعا خارقا ينحت من القسوة رهافة، ومن الصلابة نعومة، ومن الحدّة رقة... والفنان يامن العبدلي يصادق الحديد ويحاوره ويروّضه بعشق الفراشة للنار التي تحرقها، وبوفاء الفلاح لحقله الذي أسال عرقه، وبتعلق الملاّح ببحره الذي أغرقه.. كما غنّى الهادي الجويني في رائعته" حبّي يتبدل يتجدد". يصعب توصيف علاقة يامن العبدلي بالحديد في تعدّدها وتجددها، وهو الذي يصف فن النحت بأنه " مسار صعب لا ينتهي من استكشافه ودرب مرهق لا يمل من المضي فيه قدما .. فمتى تجسدت أمامه المنحوتة مكتملة البهاء وكاملة الأوصاف ينسى كل التعب في لحظة."

وكأنه يقود أوركسترا من الشرر والضجيج ، يبدو نحات الحديد يامن العبدلي أقرب إلى موسيقي يعزف بمطرقته على أوتار معدنية لتتولد سمفونية في شكل منحوتات صلبة المظهر، هشة الجوهر في البوح بجوهر الحكاية والرسالة. يؤكد يامن العبدلي أنه "لا ينحت في الفراغ، ولا ينتمي إلى مدرسة السريالية أو التجريد بل هو أقرب إلى الواقعيةً في أفكاره وفنه وانتمائه.." ويضيف: " أنا أنحت ملامح أبناء جيلي من الحالمين، ومن يطالبون بكرامة العيش في وطنهم... وتُعبّر منحوتاتي عن مواضيع اجتماعية، فتترجم مثلا معاناة عامل النظافة، وتفضح هشاشة الوضعية الاقتصادية للنساء العاملات، وتتناول معضلة البطالة... كما تدعو أعمالي إلى الحرية والعمل والأمل..." وفي هذا المسار، يتزين متحف الهواء الطلق بشاطئ مدينة المحرس (ولاية صفاقس) بمنحوتة "العامل" للفنان يامن العبدلي على إثر مشاركته في مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية سنة 2019 .
ولأنّ الفنون في تواصل وتواشج وترابط، فقد كان للنحات يامن العبدلي بصمة على ركح الفن الرابع حيث قام بتصميم ديكور باقة من المسرحيات التونسية على غرار: "هكذا تكلم زرياب" و"تحيا الحرب" و"تحت خط الحياة" وما بعد فرانكنشتاين" ...
وقريبا وتحديدا يوم 6 سبتمبر 2025، سيحل النحات يامن العبدلي ضيفا على" الملتقى الدولي للفنون رسم للجميع" ليشرف على تأطير ورشة النحت بميناء سيدي بوسعيد.

الأم زارعة الموهبة وراعية الحلم

إنّ كل موهبة عظيمة تولد من رحم قلب آمن بها، وكثيرا ما يكون قلب الأم هو أول المؤمنين. يقول النحات يامن العبدلي إنّ أمه كانت هي أول يد تربت على كتفه، وأول عين تلتقط شراره موهبته، وأول قلب يؤمن بأن خربشته البريئة قد تصبح لوحة جميلة ذات يوم. بعين حنونة وحانية ، رعت الأم موهبة الطفل المبكرة وآمنت بها وكانت تشتري له الفرشاة والألوان المائية تمنحه بلا ثمن وبلا حدود الكثير من الثقة في النفس، وكأنها تهبه جناحين ليحلق بمخيلته عاليا، عاليا. وبعد أن كبر الطفل وكبرت معه الموهبة، وتمرست أصابعه على ترويض مادة الحديد وتحويل "الخردة" إلى جمال، كانت الأم داعمة وفخورة بل وصارت شريكة في جمع المهملات الحديدية التي يمكن أن تتحول بين يدي ابنها النحات إلى حياة. لم يخف صوت يامن العبدلي الحنين الدفين والشوق الكبير لوالدته الراحلة، وهو يقول : "كانت أمي ترعى أحلامي وترافقني في صولات وجولات جنوني وتقاسمني التعب والأمل... لا أنسى قولها دائما ممازحة: "ما هذا يا صبي ألا تمل، ألا تكل من تكديس "الخردة"؟ لقد حوّلت المنزل إلى "فيراي"!"
من الرسم بالفرشاة والألوان إلى النحت بالحديد والنار، لعبت الصدفة دورها في اصطدام يامن العبدلي بـ"الخردة" حتى أنه أصبح خبيرا في تمييز قطع الحديد الصالحة للتذويب وإعادة التدوير عن الأخرى منتهية الصلوحية. ولقد ساعده تدريس مادة "التركيب المعدني" في مركز التكوين المهني في صقل هذه الموهبة، وفي مزيد التورط في الافتتان بمادة الحديد كمادة أولوية لفنه. لم يتوقع يوما أن يصبح نحاتا حتى شارك لأول مرة في المعرض الجھوي للفنون التشكيلية بالقصرين سنة 2010 بعملين فنين، العمل الأول تحت عنوان " المصارع" بارتفاع متر ونصف، والعمل الثاني حمل عنوان الموسيقار بارتفاع 1,70متر. كانت هذه المرة الأولى التي يخرج فيها النحات يامن العبدلي منحوتاته من الانزواء إلى النور، ومن العتمة إلى الضوء في اختبار لانطباع الجمهور في رهبة الممثل المسرحي وهو يصعد الركح أمام عيون الحضور.كانت الأسئلة القلقة ترهق عقل النحات يامن العبدلي: هل سيقبل الجمهور هذه المغامرة وهذه التجربة الجديدة ؟ منحوتات من الخردة، مواد مختلفة، تصورات غير معتادة...!؟ " لكن النتيجة كانت غير متوقعة: ترحاب كبير، إعجاب بلا حدود، تشجيع دون حواجز... فكانت تلك البداية لمسيرة نحات أصبح يشارك بانتظام في عديد المعارض الجھوية فالوطنية فالدولية مما أكسبه شهرة محلية وعربية.
تمتلك "الخردة" ولو كانت ملقاة على قارعة الطريق ذاكرة لأنها كانت قطعة من آلة أو شاهدة حياة بشرية، وحين يجمعها النحات يامن العبدلي فإنه يمنحها الشكل المغاير والوظيفة الجديدة على طريقته الخاصة ليخرجها من اللامعنى ويمنحها قيمة اعتبارية وجمالية في شكل قطعة فنية تجذب العين وتترك الأثر في النفس.

من السطح إلى بيت الجد: ورشة نحت وبحث

في البيت القديم .. في دار الجدّ رائحة زكية لا تضاهيها العطور الباريسية، وراحة أبدية لا تمنحها المنازل مهما بلغت من الرفاهية... هو شعور أشبه بالسحر يسري في الجسد والحواس في حضرة منزل هو عنوان الحنان وتهويدة الأحلام وذكريات الطفولة... وقد اتخذ النحات يامن العبدلي من منزل الجد، وسط مدينة القصرين، ورشة للنحت وللإبداع وللبحث في رؤى جمالية وفية لواقعها ولبيئتها.
تحت ظل دالية عنب طالما كانت شاهدة على الذاكرة والذكريات، يعمل النحات يامن العبدلي في باحة "حوش" الجدّ في مكان يبدو صامتا وهادئا لكنه في الحقيقة يعج بالأصوات وبالحياة. في البيت القديم، ليس صرير الباب الخشبي العتيق سوى أنين حنين يئن تحت وطأة السنين، وليس البلاط المتهرئ سوى رجع صدى لأقدام مرت من هناك وتركت بعضا من خطواتها وضحكاتها وعطرها، وليست جدرانه المتشققة سوى مرايا لحكايات نسجتها الأيام في مواسم العواصف والأمطار... هي أطياف ووجوه راحلين تتراءى للنحات يامن العبدلي وكأنه تؤنس عزلته، وكأنها ترعى موهبته. وعندما يتطاير الشرر من الحديد، تذكي النار رائحة المكان العبق بالاشتياق وبالمحبة الصادقة.
يصف الحفيد الفنان طاقة الإلهام التي وجدها في منزل الجد قائلا:" يتطلب فن النحت مساحة واسعة للعمل، فاتخذت في البداية من سطح منزلنا ورشة لي، ثم صرت أتنقل بين مستودع وآخر، ولكن في بيت جدي يتملكني شعورا فريدا واستثنائيا... لم يكن منزل جدي مأوى لي وورشة لعملي فحسب بل هو شرارة إلهام وموعد مع الجمال يتجدد في كل مرّة. في هذا المكان أشعر دائما بنداء خفي وبروح مقدسة تؤنسني وترافقني وتوصيني بأن الفن رسالة وقضية وخير هدية لذكرى الجد وخصوصية الهوية.

يامن العبدلي وعدنان الهلالي: مغامرة التجديد والتجريب

قال النّحات العراقي الكبير "نداء كاظم" في حوار تلفزي: "ذات يوم جمعنا الرئيس الراحل صـدام حسين، وقال رأيت حلما وأريدكم أن تصنعوا منه تمثالا! فعجزنا نحن النحاتون أمام هذا الطلب ولم نستطع فعل شيء". ولكن النحات التونسي يامن العبدلي لا يعجزه أبدا تحويل تصورات وأفكار صديقه الفنان عدنان الهلالي إلى منحوتات وشخصيات قائمة الذات. هو انسجام في اتساع أفق الرؤية واصطلاح على جواز الحلم، جمع بين الفنانين ليحرضهما على إتيان الجديد وتطويع الحديد ليحتمل مجازات واستعارات ومشتقات طبيعية على غرار الحلفاء والصنوبر والصوف... كما أتت الصدفة بيامن العبدلي إلى عالم النحت، فقد جمعت الصدفة أيضا بين النحات يامن العبدلي ومؤسس المركز الثقافي الجبلي للفنون والحرف بسمامة عدنان الهلالي. لم تكن مجرد مصادفة عابرة بل التقاء أرواحا حالمة ومتمردة تمقت الاعتيادي والروتيني، وتحمل شغفا بالمغامرات وبالمجازفة في الاستكشاف والتجريب. فاشتعلت شرارة الإبداع بين الفنانين وتولدت عن نارها منحوتات وشخصيات ذات مرجعيات أدبية وتراثية بلمسات جمالية يدعمها الخيال. يسترجع يامن العبدلي أول لقاء مع عدنان الهلالي، فيقول: " في سنة 2019 زار الناشط الثقافي عدنان الهلالي معرضي في مدينة الثقافة، فأعجب أيمّا إعجاب بأعمالي. وبعد حوار وتبادل لأفكار والرؤى صرنا صديقين وشركاء عمل وحلم. وقد أصبحنا ننسج معا حكايات منحوتات في كل "عيد رعاة" ينظمه المركز الثقافي الجبلي بسمامة، وفي كل مناسبة ثقافية متاحة للعرض وللفن. في "عيد الرعاة" في دورته 13 لسنة 2025، أضفت منحوتة "دون كيشوت على الراڤوبة" ليامن العبدلي على جبل سمامة مسحة من الخيال والجمال والكبرياء و"دون كيشوت" يمتطي حصانه بعزة الفارس المستميت في مطاردة أحلامه مهما عرقلته طواحين الهواء. ليس هذه المنحوتة الوحيدة بل هي الأخيرة التي كانت من المفاجآت الجميلة في عيد الرعاة 2025، قبل أن يحط النحات يامن العبدلي الرحال بالمركز الثقافي الفرنسي بتونس العاصمة في تظاهرة "ليلة الأفكار" مساء يوم 27 جوان 2025 في احتفاء بكرنفال الحلفاء أو مشروع "كارنا حلفا" للمركز الثقافي الجبلي بسمّامة. يومها، توافد الجمهور التونسي والزوار الأجانب على معرض النحات يامن العبدلي في دهشة تتلألأ في العيون وكأنهم يزورون عالما سحريا تجسده منحوتات من حديد تشي بحكايات هي ابنة الشرر والنار ، ووليدة صبر النحات وموهبة أنامله في تحويل القسوة إلى جمال، والجماد إلى ناطق بكلمات ليست ككل الكلمات. خارج القاعة المغلقة لمعرض النحات يامن العبدلي ، كانت منحوتة "حلفوس" العملاقة في حديقة المركز الثقافي الفرنسي بتونسي كائنا من الضوء والخيال والأسطورة، وقد صاغت ملامحه جذور صنوبر جبل سمّامة في تشابك بين الحلفاء والحديد والكثير من الرمزية والشعرية المتجذرة في عمق الهوية والمحلقة على أجنحة التخييل حيث يصبح المستحيل ممكنا أمام عزيمة من حديد لا تلين !
في سؤال أخير شاء فيه القدر أن يظهر فيه طفل صغير في المشهد- كان هذا الطفل هو ابن الفنان يامن العبدلي الذي صاح مناديا والده فرحا باصطياد حمامة - سألنا النحات يامن العبدلي: لو جاءك طفل بقطعة حديد وطلب منك أن تجسد له منحوتة، فماذا ستنحت له؟ فأجاب دون تردد وصوته مفعم بالأمل :" حمامة... نعم سأنحت له حمامة رسولا للحب والوئام ورمزا للسلام والأحلام.."

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115