قانون منع المناولة في تونس: بين استعادة كرامة العامل وإكراهات واقع اقتصادي هش

صادق مجلس نواب الشعب فجر اليوم الأربعاء 21 ماي 2025،

على مشروع القانون عدد 16/2025 المتعلّق بتنظيم عقود الشغل ومنع المناولة وهذا النص التشريعي، الذي وافق عليه 121 نائبًا في سابقة قانونية بتونس ، يأتي في سياق وطني تتعاظم فيه المطالب بتحقيق العدالة الاجتماعية، ووضع حدّ لأشكال التشغيل الهش والعمل غير اللائق الذي طالما غذّى الاحتقان الاجتماعي داخل المؤسسات العامة والخاصة وأهمها المناولة في قطاعي الحراسة والتنظيف، وحسب وثيقة شرح الأسباب المصاحبة لمشروع القانون، فإن الهدف الأساسي هو العمل على مراجعة منوال التشغيل بما يضمن كرامة العامل ويحفظ في الآن نفسه استمرارية المؤسسة وقدرتها على التأقلم مع السوق.

فماهي تفاصيل هذا القانون؟ وهل اختلفت حوله الآراء وكيف تعاملت الدول الأخرى مع المناولة؟

 لقد أصبحت المناولة، أو ما يطلق عليها بمصطلح "الاستعانة بطرف ثالث" ممارسة شائعة في القطاعين العام والخاص، تُستخدم كآلية لتقليص التكاليف أو تجاوز القيود البيروقراطية،غير أن هذه الممارسة غالبًا ما تؤدي إلى خلق علاقة شغل غير مستقرة للعامل، وتفرز طبقة من "العاملين دون ضمانات" لا يتمتعون بأبسط حقوقهم الأساسية كالترسيم و التغطية الاجتماعية والمنح ، والحماية من الفصل التعسفي.

هشاشة مكرّسة بالأرقام

يعتبر هذا القانون الجديد، الذي تمسك به وزير الشؤون الاجتماعية عصام الأحمر خلال المداولات والنقاشات المطوّلة التي دامت لساعات متأخرة ، جزءا من إصلاح تشريعي يهدف إلى تنظيم العلاقة بين العامل والمؤجر، والحد من أشكال التشغيل الهش عبر ضبط العلاقة التعاقدية بين الأطراف المعنية، وإلزام المؤسسات بتوظيف مباشر للعاملين الذين يمارسون مهام قارة داخل الهياكل الأصلية بهذا المعنى، لا يمنع القانون "الخدمات العرضية" أو المناولة التقنية المتخصصة، بل يستهدف "المناولة المقنعة" التي تتخذ غطاءً لتشغيل هش دائم.

في الواقع فانه لا يمكن فهم خلفية هذا القانون دون التوقّف عند الأرقام التي تكشف حجم الظاهرة حيث تبين آخر الأرقام أن حوالي 72 ألف عامل يشتغلون في إطار شركات المناولة في تونس إلى حدود سنة 2023 وأكثر من 60% منهم دون تغطية اجتماعية فعلية، وما يقارب 45% لا يتقاضون الأجر الأدنى المضمون و 32% من الأعوان في وزارات سيادية ومؤسسات عمومية يشتغلون بعقود مناولة غير مستقرة رغم أن مهامهم دائمة وأساسية كما تتراوح فروقات الأجور بين العامل الأصلي والمناول لنفس المهمة بين 30% و40%، وفقًا لتقارير المرصد التونسي للعدالة الاجتماعية، ويرى أغلب المحللين والمتابعين للشأن الوطني أن هذه الأرقام تشير إلى وضعية تشغيل يُمكن وصفها بـ"العبودية الحديثة"، حيث تُستخدم آلية المناولة لتفادي الالتزامات القانونية تجاه الأعوان، ولتأبيد الهشاشة بحجة المرونة.

ماذا يتضمّن القانون الجديد؟

يقرالقانون عدد 16/2025 بوضوح أن ، العقود محددة المدّة، هي استثناء ولا يُسمح باللجوء إليه إلا في حالات خاصة ومبرّرة أما العقود غير محددة المدّة فهي الصيغة الطبيعية والأصلية للتشغيل بالإضافة إلى منع اللّجوء إلى شركات المناولة في الحالات التي تغطي وظائف دائمة أو مهام قارة داخل المؤسسات العمومية والخاصة، ويُسمح فقط ببعض التدخلات الفنية أو الظرفية ويشمل أهم الإجراءات وأهمها إلزامية الترسيم بعد فترة تجربة لا تتجاوز 6 أشهر، والتمييز الواضح بين "الخدمات الفنية الخارجية المؤقتة" المسموح بها، و"التشغيل المقنّع" الذي يُعدّ التفافًا على العلاقة الشغلية الأصلية بالإضافة إلى تعزيز دور تفقدية الشغل في المراقبة والمتابعة، مع إمكانية التدخّل القضائي لإعادة تأهيل الوضعيات المخالفة، وفرض عقوبات قد تصل إلى السجن وخطايا مالية على المؤسسات المخالفة التي تواصل العمل مع شركات مموّلة خارج القانون بالإضافة إلى حرمانها من الامتيازات أو من التعاقد مع الدولة.

إصلاح اجتماعي أم عقبة أمام الاستثمار

في حين يُنظر إلى هذا القانون باعتباره مكسبًا نقابيًا واجتماعيًا واستجابة لمطالب طال انتظارها من قبل النقابات في شكله العام والمنظمات الحقوقية ، على اعتبار أن غياب الاستقرار المهني يولد الإحباط، ويضعف الإنتاجية، ويغذي النزاعات والاحتجاجات الاجتماعية، فإن بعض الأطراف الاقتصادية تعبّر عن مخاوف مشروعة، إذ يرى عدد من أرباب العمل أن القطاع الخاص ما زال غير مستقر ويعاني من ضغط جبائي مرتفع وان سوق الشغل تحتاج مرونة تسمح للمؤسسات بالتكيّف مع تقلّبات الطلب، خاصة في قطاعات مثل البناء، الخدمات اللوجستية، الحراسة والنظافة، و يعتبرون المناولة وسيلة للمرونة التشغيلية وتقليص الكلفة في مناخ اقتصادي هشّ.

يُبدي العديد من أرباب العمل تحفظات واضحة تجاه القانون الجديد المتعلق بمنع المناولة، معتبرين أنه قد يُربك توازناتهم التشغيلية والمالية، بل قد يضع بعض المؤسسات أمام مخاطر الإفلاس أو التقليص من حجم أنشطتها، ويعزى هذا الرفض أساسًا إلى رغبتهم في الحفاظ على قدر من المرونة التشغيلية التي تتيحها شركات المناولة، خصوصًا في القطاعات التي تشهد تقلبًا موسميًا في الطلب.

إلى جانب ذلك، تمثل المناولة بالنسبة لأرباب العمل وسيلة ناجعة لتقليص كلفة التشغيل، خاصة في ظل الضغوطات الجبائية والالتزامات الاجتماعية المرتفعة في تونس. فالعامل عبر المناولة يتقاضى عادة أجرًا أقل من نظيره المباشر، كما لا يحصل على الامتيازات نفسها مثل منح التنقل والتغذية أو التغطية الصحية الكاملة، ولا تُتاح له فرص التدرّج الوظيفي أو الترسيم.

هذه الفروقات تجعل من المناولة خيارًا اقتصاديًا مفضلاً، خاصة لدى المؤسسات الصغرى والمتوسطة التي تعاني أصلًا من هشاشة مالية وهيكلية ويرى أرباب العمل أن التعاقد مع شركات المناولة يعفيهم من كثير من التعقيدات القانونية والإدارية المرتبطة بالتشغيل المباشر، مثل تسوية وضعيات الأعوان، والتعامل مع الحوادث المهنية، أو النزاعات الشغلية التي قد تنشأ أثناء المباشرة فوجود طرف ثالث يتحمل هذه المسؤوليات يُعتبر حلاً عمليًا يُجنّب المؤسسة الدخول في متاهات قضائية وبيروقراطية طويلة ومعقدة.

يرى جزء مهم من المشغلين ان فرض هذا القانون دون توفير آليات بديلة واضحة وفعالة، سيُعرضهم لصعوبات كبيرة في تعويض العمال بسرعة أو في استجابة الدولة لمطالبهم اللوجستية والإجرائية، فالقانون من وجهة نظرهم لا يجب أن يكون أداة قسرية فقط، بل يجب أن يكون مصحوبًا بمقاربة واقعية تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات التشغيل في تونس.

ولا يخفي أرباب العمل تساؤلات مشروعة بشأن غياب البدائل مثل الحوافز التي قد تشجعهم على التخلّي عن المناولة، وعن المكاسب المحتملة من ترسيم مئات الأعوان في مؤسساتهم، في غياب أي تحفيز جبائي أو تيسير للإجراءات، أو حتى برامج دعم فني ومرافقة لتأهيل اليد العاملة وهم لا يرفضون مبدئيًا فكرة الترسيم والتشغيل الكريم، لكنهم يرفضون أن يتحول ذلك إلى عبء اقتصادي يهدد استمرارية مؤسساتهم.

 كيف تعاملت الدول الأخرى مع المناولة؟

تتبنى اغلب الدول مقاربات متباينة في تنظيم العمل بالمناولة، تتراوح بين التقييد الصارم والتنظيم المرن، ففي فرنسا يمنع القانون تشغيل العامل المناول في مهمة دائمة لأكثر من 18 شهرًا، مع إلزامية مساواة الأجر والمزايا بينه وبين العامل القار، ويُعتبر تجاوز هذه الآجال توظيفًا مقنّعًا يعرّض المؤسسة للملاحقة. أما في ألمانيا، فيُفرض بعد 9 أشهر من العمل المؤقت أن يحصل العامل على نفس أجر نظيره الدائم، مع توفير آليات لتشجيع الترسيم التدريجي داخل المؤسسة ، وفي في إيطاليا، تقيد عقود المناولة زمنياً ولا يمكن تجديدها أكثر من مرّتين متتاليتين دون مبرر موضوعي، كما تُمنح النقابات حق الطعن في العقود المشبوهة،أما في جنوب إفريقيا، فقد تم فرض ترسيم العامل المناول تلقائيًا بعد 3 أشهر من العمل المتواصل إذا كان يؤدي مهامًا مماثلة للعامل الرسمي، وذلك للحد من استغلال العمال

تُظهر هذه التجارب أن تنظيم المناولة لا يتعارض بالضرورة مع متطلبات السوق، بل يتطلّب إطارًا قانونيًا واضحًا يوازن بين مرونة التشغيل وضمان كرامة العمل.

 نحو عقد اجتماعي جديد

مصادقة البرلمان على هذا القانون تفتح الباب أمام تصور جديد للعلاقة الشغلية في تونس، يقوم على الإنصاف لا الاستغلال، وعلى الكفاءة لا الهشاشة لكن هذا النجاح يبقى مشروطًا بقدرة الدولة على فرض القانون، وإقناع المستثمرين بأن كرامة العمل لا تتعارض مع النمو، بل هي شرطه الأول ، بالإضافة إلى تقديم حلول وبدائل تضمن سلامة المؤسسة من الإفلاس والغلق في مقاربة تشاركية بين جميع الأطراف الاقتصادية والنقابية ولا تكتفي بتجريم المناولة أو فرض غرامات، بل تسعى إلى خلق مناخ اقتصادي وتشريعي يُقنع المؤسسة بأن التشغيل المباشر ليس فقط التزامًا أخلاقيًا وقانونيًا، بل خيارا استراتيجي قابل للتحقيق في بيئة أعمال منصفة وداعمة.

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115