يبعث على التفاؤل، حيث ارتفعت أرباح 62 مؤسسة مدرجة بنسبة 9,3% خلال النصف الأول من العام، لتصل إلى 1600 مليون دينار مقابل 1464 مليون دينار، لكن وراء هذه الأرقام الصاخبة يختبئ سؤال أساسي فهل تعكس هذه النتائج مجرد زخم مؤقت، أم بداية مسار مستدام يعكس نضج السوق وثقة المستثمرين؟ وكيف يمكن لهذه الزيادة أن تؤثر في سلوك المستهلك التونسي، الذي يتأرجح بين الخوف والتردد والإقدام والمغادرة السريعة؟ وهل ستتمكن البورصة من الانتقال من كونها فضاء مضاربة ظرفية إلى رافعة حقيقية للنمو الاقتصادي والاستثمار طويل الأجل؟
تمثل هذه التساؤلات محور تحليلنا، إذ سنتناول في هذا المقال ليس فقط النتائج المالية، بل أيضاً صلابة الشركات، وديناميكية السوق، ونمط تفكير المستثمرين، و كيف يمكن تحويل مؤشرات اليوم إلى فرص حقيقية للمستقبل.
هذه التساؤلات تحثنا على قراءة النتائج المالية التي قدمتها بورصة تونس للأوراق المالية ليس فقط كأرقام، بل كمؤشرات على صلابة الشركات، وهشاشة السوق، وعقلية المستثمرين، وهي كلها عناصر تحدد قدرة بورصة تونس على أن تصبح رافعة إستراتيجية للنمو والاستثمار طويل الأجل.
صلابة الشركات
استحوذت المؤسسات المكوّنة لمؤشر توننداكس 20 وحدها على 79% من الأرباح، وهذا التركّيز يعكس من جهة صلابة الشركات الكبرى في مواجهة الظرفية الاقتصادية، لكنه من جهة أخرى يكشف هشاشة القاعدة العريضة لبقية الشركات المدرجة، التي مازالت مساهمتها في خلق القيمة محدودة.
رغم الضغوط المتواصلة التي يعرفها الاقتصاد الوطني من تباطؤ في النمو وتحديات تمويلية وهيكلية، برهنت المؤسسات المدرجة في بورصة تونس على قدرة ملحوظة على الصمود والتكيّف، فارتفاع الأرباح الإجمالية بـ9,3% في السداسي الأول من 2025 ليس مجرد نتيجة محاسبية، بل دليل على أن هذه الشركات استطاعت امتصاص الصدمات الخارجية والداخلية عبر تنويع أنشطتها، وتحسين حوكمتها، وترشيد نفقاتها، كما أن استحواذ مؤشر توننداكس 20 على 79% من النتائج يعكس متانة الهياكل الكبرى، التي تمثل اليوم ركيزة أساسية لاستقرار السوق وتوازنها، وتؤكد أن الاستثمار في هذه المؤسسات يظل خياراً آمناً نسبياً في ظرفية اتسمت بالتقلب وعدم اليقين.
أهمية القطاعات
ارتفعت نتائج القطاع المالي، الذي يهيمن على البورصة خلال الفترة الأولى لسنة 2025 بـ29 مؤسسة، بـ7.1% لتصل إلى 1070 مليون دينار وهذا الأداء لئن يعكس متانة البنوك ال12 المدرجة والتي حققت ، نتائج بقيمة 886 مليون دينار، أي ارتفاع، بنسبة 6.6 بالمائة وشركات التأمين ، والتي ارتفعت ب22.2 بالمائة، لتبلغ مستوى 102 مليون دينار، ونتائج الإيجار المالي والتي ارتفعت أيضا ، بنسبة 5،8 بالمائة، فهو في الوقت نفسه يطرح تساؤلات حول مدى قدرة السوق المالية التونسية على تنويع محركات النمو، حتى لا تبقى مرتبطة أكثر بالدورة المالية على حساب الاقتصاد الحقيقي.
يلاحظ المتابع للنتائج التي حققتها الشركات المدرجة وأهمية القطاعات أن قطاع الاستهلاك والخدمات الموجهة للمستهلك حقق نوعية بـ 60,6%، حيث يكشف التطور الذي شهدته بعض الشركات الضخمة في أرباحها، عن مؤشرات تعافي الطلب الداخلي وهذا التطور ليس مجرد رقم مالي، بل هو إشارة إلى تحسن ثقة المستهلكين تدريجياً، وهو عنصر أساسي في استدامة النمو الاقتصادي.
وفي حين واصلت الصناعات الغذائية والصناعة نسقاً تصاعدياً محققا ارتفاعا ب5,1% و 15,5% ، فقد سجّل قطاع المواد الأولية تراجعاً بـ14,5% وهذا التباين يترجم الضغط المتزايد على كلفة الإنتاج، وتأثر القطاعات المرتبطة بالمواد الأولية بعوامل خارجية لعل ابرزها تقلب الأسعار العالمية،و صعوبات التوريد.
هشاشة هيكلية
رغم ما حققته بورصة تونس من خطوات على مستوى التنظيم والشفافية، فإنها مازالت تعاني من هشاشة هيكلية تجعلها سوقاً محدودة العمق وضعيفة السيولة، إذ يتركز الثقل في بضع شركات كبرى، بينما تبقى بقية المؤسسات المدرجة شبه غائبة عن اهتمام المستثمرين. هذا الواقع يعكس أيضاً معضلة ثقافية لدى المستثمر التونسي الذي يتعامل مع البورصة بعقلية يغلب عليها الخوف والتوجس، حيث ينجذب إلى السوق في فترات الانتعاش ثم يغادرها بسرعة مع أول بوادر تقلب، ما يحولها إلى فضاء مضاربة أكثر من كونها أداة تمويل للاقتصاد، كما أن غياب إستراتيجية فعلية لتعميق السوق وتوسيع قاعدة المستثمرين يزيد من حدة هذا التذبذب، وبذلك، تبقى البورصة في تونس محاصرة بين طموحات تتعلق بجعلها رافعة للاستثمار، وواقع يُقيدها بضعف ثقة الأفراد والمؤسسات وغياب رؤية واضحة لتطويرها.
كسب ثقة المستثمر
هل ستتمكن الشركات المدرجة من الحفاظ على نفس النسق في ظل استمرار الضغوط الاقتصادية؟ وهل يمكن للقطاعات الإنتاجية أن تقلّص من الفجوة مع القطاع المالي؟ ثم كيف يمكن للسياسات العمومية أن تترجم هذه المؤشرات الإيجابية إلى تحفيز حقيقي للاستثمار وجذب رؤوس أموال جديدة نحو البورصة؟ كلها أسئلة تطرح نفسها في علاقة بوضعية السوق وتغيير عقلية المستهلك التونسي تجاه الاستثمار في البورصة .
يُعدّ هذا التغيير عنصراً أساسياً لتعزيز ثقة السوق وتحقيق استدامة النمو وهو ما تبينه النتائج الإيجابية للنصف الأول من سنة 2025، مع ارتفاع أرباح الشركات المدرجة بـ9,3% وتحسن أداء القطاع المالي والاستهلاكي، وهي مؤشرات في الحقيقة تقدّم فرصة ذهبية لتوجيه المستثمرين نحو استراتيجيات طويلة الأجل بدل الاعتماد على المضاربة السريعة. ولتحقيق ذلك، يجب الجمع بين التثقيف المالي، الذي يعرّف الأفراد بأساسيات الاستثمار والمخاطر المرتبطة بالبورصة، وبين تعزيز الشفافية والموثوقية لدى المؤسسات المدرجة، عبر نشر بيانات دقيقة وفورية تُبرز استقرار السوق. كما أن تقديم حوافز تشجيعية مثل مزايا ضريبية أو تسهيلات للاستثمار الرقمي يسهّل على الأفراد الإقدام على الاستثمار بثقة. لا يقلّ عن ذلك أهمية تنويع المنتجات المالية لتلبية احتياجات مختلف الشرائح، وربطها بالقطاعات الواعدة مثل الاستهلاك والصناعات الغذائية لضمان عوائد أكثر استقراراً وفي النهاية ، يتحول المستثمر من متردد وخائف إلى فاعل واعٍ ومستثمر استراتيجي، قادر على المساهمة في تحويل البورصة إلى أداة فعالة لدعم الاقتصاد الوطني وتحقيق التنمية المستدامة.