عزيز الحماية الاجتماعية في تونس: قراءة تحليلية في مذكّرة البنك الدولي ورهانات الاقتصاد الوطني

قدّم البنك الدولي أمس مذكّرة اقتصادية تحت

عنوان "تعزيز الحماية الاجتماعية لتحقيق الاندماج والعدالة الاجتماعية"، لتسلّط الضوء على مسار الاقتصاد التونسي، وتضع بين أيدي صناع القرار مجموعة من المؤشرات الرقمية الدقيقة، وتبعث رسائل سياسية واقتصادية لا تقلّ أهمية عن الأرقام نفسها. المذكرة تكشف بوضوح أنّ تونس تقف أمام مفترق طرق إمّا التقدّم نحو إصلاح شامل يعالج جذور الأزمة، أو البقاء في دائرة الهشاشة التي عمّقتها سنوات ما بعد الجائحة.

سجّل الاقتصاد التونسي وفقاً لآخر المعطيات، نمواً بنسبة 2.4% خلال الأشهر التسعة الأولى من سنة 2025، مدفوعاً أساساً بالأداء الجيّد لقطاع البناء وتعافي القطاع السياحي. هذا التحسن يُعدّ إيجابياً مقارنة بسنوات ما بعد الصدمات الجيواقتصادية لجائحة كورونا، لكن البنك الدولي يذكّر بأنّ هذا النمو يبقى غير مستدام ما لم يُدعّم بإصلاحات هيكلية واسعة.

تتوقع المؤسسة المالية الدولية أن يبلغ النمو 2.6% سنة 2026، قبل أن يتراجع قليلاً إلى 2.4% بين 2027 و2030، وهي نسب لا تزال دون المستوى المطلوب لاستيعاب البطالة وتحريك عجلة الاستثمار. وهنا يظلّ التحدي الأكبر في القدرة على الانتقال من اقتصاد متواضع الأداء إلى اقتصاد منتج، قادر على خلق الثروة ورفع الإنتاجية وتطوير السلاسل القيمية.

تراجع التضخم وعجز تجاري متفاق

واصل التضخم، الذي كان أحد أكثر المؤشرات ضغطاً على الأسر التونسية، التراجع خلال الأشهر الأخيرة ليبلغ 4.9% في أكتوبر 2025، بعد أن كان في ذروته عند 10.4% في بداية 2023.

وهذا الانخفاض، رغم أهميته، لم يأتِ نتيجة توسّع في الإنتاج أو ضخ استثمارات تدعم العرض، بل بفضل تباطؤ الطلب المحلي نتيجة الضغط على القدرة الشرائية وارتفاع كلفة الاقتراض وسياسات التشدد النقدي.

وما لم يُرافق هذا الاتّجاه بإصلاحات شاملة في سلاسل التوريد، وإجراءات داعمة للإنتاج، فإن خطر عودة التضخم يبقى وارداً بمجرد تحسّن الطلب.

سجّل احتساب العجز التجاري زيادة بنسبة 6.5%، ليصل إلى 2% من الناتج المحلي خلال النصف الأول من 2025.ورغم ارتفاع الإيرادات السياحية وتحويلات التونسيين بالخارج، فإنّها لم تنجح في امتصاص الضغوط الناتجة عن ارتفاع فاتورة المواد الأساسية، وضعف الإنتاج المحلي، وتراجع الاستثمار الأجنبي بنسبة 41% مقارنة بالعام السابق.إلى جانب ذلك، ارتفع العجز المالي للحكومة إلى 6.3% من الناتج المحلي سنة 2024، فيما ظلّ الدين العمومي عند مستوى 84.5%، وهي نسب تكشف هشاشة التوازنات المالية العمومية.

أما الفصل المحوري في مذكرة البنك الدولي فهو يهمّ بالأساس برامج الحماية الاجتماعية، إذ يرى البنك أنّ نجاح تونس في إصلاح هذه البرامج قد يكون المدخل الرئيسي لتحقيق العدالة الاجتماعية والحدّ من الفقر المدقع.وقد لاحظ البنك أنّ الدعم الاجتماعي شهد تضخماً غير منظم خلال السنوات الأخيرة، مقابل محدودية الإصلاحات التقنية والهندسة المؤسساتية.

كما ارتفعت برامج المساعدات النقدية بنسبة 10% منذ 2023، دون أن يكون لذلك أثر واضح في خفض الفقر بسبب غياب التوجيه الدقيق وتهرّب جزء من الاقتصاد الموازي من شبكات التصريح والعمل المنظم.

 

الدعم والإصلاح

دعا البنك الدولي إلى توجيه الدعم للفئات الأكثر هشاشة عبر منظومة استهداف رقمية دقيقة. وإصلاح نظام التأمين الاجتماعي لتشمل العمال في القطاع غير المنظم بالإضافة إلى اعتماد قواعد شفافة لتوزيع الموارد وتحسين الحوكمة. كما ضمن البنك رسائلا واضحة تبين دعما مشروطا بالإصلاح.

في هذا الإطار قال ألكسندر أريبيو، مدير مكتب البنك الدولي في تونس : "حققت تونس خطوة نوعية وتقدماً ملموساً في توسيع نطاق تغطيتها للفئات الأشد فقراً". وأضاف : "تماشياً مع تركيزنا على تعزيز رأس المال البشري ودعم الصمود في إطار شراكتنا مع تونس، فإن تحسين فاعلية وجدوى نظم الحماية الاجتماعية يعد أمراً بالغ الأهمية ويمكن من تقليص من التفاوت الاجتماعي ودعم الإندماج الاقتصادي للأسر الأكثر هشاشة".

في الواقع فان تصريح مدير مكتب البنك الدولي في تونس ألكسندر أريبيو، يُظهر رسائلا مركّبة تتجاوز المجاملة الدبلوماسية، فحين يشير إلى أن "تونس حققت خطوة نوعية وتقدماً ملموساً في توسيع نطاق تغطيتها للفئات الأشد فقراً"، فهو يقدّم اعترافاً ضمنيا بالتقدّم، لكنه يضعه في إطار محدود ودقيق، ما يعني أن البنك يرى أن الجهود ما زالت في بدايتها وأن هامش التطوير ما يزال كبيراً. أما حديثه عن "تحسين فاعلية وجدوى نظم الحماية الاجتماعية" واعتباره ذلك "أمراً بالغ الأهمية"، فهو تلميح واضح إلى أن المشكلة ليست في حجم الإنفاق الاجتماعي، بل في حَوْكمته وتوجيهه، وأن نجاعته تتطلب إصلاحاً بنيوياً، لا زيادةً في الاعتمادات. كذلك، فإن تركيزه على "تقليص التفاوت الاجتماعي ودعم الاندماج الاقتصادي للأسر الأكثر هشاشة" يعكس رؤية البنك التي تربط بين العدالة الاجتماعية وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، في إشارة ضمنية إلى أنّ استمرار الاختلالات الاجتماعية قد يتحول إلى عامل تعطيل للنمو وإضعاف لقدرته على الاستمرار.

رسالة مباشرة لصناع القرار

في القسم الثاني من تصريح مدير مكتب البنك الدولي في تونس، حين يؤكد أن "الحفاظ على استقرار الاقتصاد الشامل وتعزيز استدامة المالية العمومية مع توسيع نطاق الحماية الاجتماعية" أمر جوهري، فهو يوجّه رسالة مباشرة لصناع القرار مفادها ان أي توسّع اجتماعي يجب أن يكون منضبطاً مالياً، وأن الإصلاح المالي لا ينفصل عن إصلاح منظومة الدعم والتحويلات. كما أن تأكيده على "تحسين أداء المؤسسات العمومية وتعزيز المنافسة ومناخ الاستثمار" يُعدّ إشارة نقدية صريحة إلى نقاط الضعف التي تعيق نجاعة الاقتصاد التونسي، وتلميحاً بأن مستقبل الدعم الدولي مرتبط بمدى التقدّم في هذه الإصلاحات. باختصار، تصريح أريبيو يجمع بين التطمين والضغط وفي ذلك إشادة محدودة بما تم إنجازه، ورسالة قوية بأن الطريق نحو الإزدهار المشترك يمرّ عبر إصلاحات هيكلية جريئة تمسّ الحوكمة، المنافسة، والمالية العمومية قبل أي شيء آخر.

الإزدهار المشترك

جدير بالاعتبار أن الحفاظ على استقرار الاقتصاد الشامل وتعزيز استدامة المالية العمومية مع توسيع نطاق الحماية الاجتماعية مع تحسين استهدافها، غاية في الأهمية لضمان تحقيق الإزدهار المشترك بين كافة أفراد الشعب التونسي. كما تظل مواصلة المبادرات الهادفة إلى تحسين أداء المؤسسات العمومية وتعزيز المنافسة ومناخ الاستثمار أمراً بالغ الأهمية.

ويؤكد البنك من خلال قرائتنا لهذه المذكرة أنّ أي إستراتيجية ناجعة تتطلب استقرار الاقتصاد الكلّي والسيطرة على التضخم، والتحكم في العجز، واستعادة ثقة الأسواق الدولية بالإضافة إلى إصلاح المؤسسات وتعزيز استقلاليتها ، وتحسين جودة الإنفاق العمومي، وتقليص البيروقراطية وكذلك و تشجيع الاستثمار الخاص وتهيئة المناخ القانوني والجبائي ودعم ريادة الأعمال لخلق فرص العمل، و حماية اجتماعية فعالة وعادلة ليس عبر زيادة حجم الدعم، بل عبر تحسين استهدافه وربطه بالإدماج المهني.

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115