التقرير العالمي للتجارة 2025، الذي جاء في ظرف دولي بالغ التعقيد، يوصف بأنه الأسوأ منذ ثمانية عقود على مستوى الاضطرابات التي يعيشها النظام التجاري العالمي. سلط التقرير الضوء على إحدى أبرز “النقاط المضيئة” في المشهد الاقتصادي الراهن وهي الذكاء الاصطناعي (AI) وبين إن تقنيات الذكاء الاصطناعي مرشحة لإحداث طفرة غير مسبوقة في حركة التجارة العالمية، مع تقديرات بزيادة قيمتها بنحو 40%، بحلول سنة 2040 مقارنة بالمسارات الحالية .
هذه النسبة التي اختُزلت بشعار “40 في 40” ليست مجرد توقع متفائل، بل تعكس ديناميكيات ملموسة بدأت الشركات نفسها في رصدها حيث ان أكثر من 90% من المؤسسات التي تعتمد تقنيات الذكاء الاصطناعي أفادت بتحسن في إدارة المخاطر التجارية و الامتثال للإجراءات الحدودية.
الفجوة الرقمية
نبه تقرير منظمة التجارة الدولية الذي أطلق مؤخرا بجنيف إلى أنّ هذه المكاسب لن تتوزع تلقائياً بعدالة بين مختلف الاقتصاديات. ووفق السيناريوهات المتاحة، لن تجني الاقتصاديات منخفضة الدخل سوى 8% من النمو الحقيقي في الدخل، مقابل زيادات مضاعفة لدى الاقتصاديات المتقدمة، لكن إذا ما تم الاستثمار في البنية التحتية الرقمية وتعزيز اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي، فإن المكاسب يمكن أن تتضاعف لتصل إلى 15%، في حين لن تتأثر نسب نمو الدول الغنية بشكل جوهري. هذا يعني أنّ العدالة الاقتصادية ممكنة، لكنّها تتطلب خيارات سياسية واعية واستثمارات إستراتيجية لتقليص الفجوة الرقمية والذكية بين الشمال والجنوب.
نشير من جهتنا في هذا الشأن إلى أن الاستثمار في البنية التحتية الرقمية يمثّل شرطًا استراتيجيًّا وأساسيا يساعد الدول على الاستفادة من الإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي. في تقرير منظمة التجارة العالمية 2025 يُبيَّن أن الدول منخفضة الدخل قد تحقق نموًا في الدخل الحقيقي بنسبة 8٪ إذا ظلّت دون تحسينات كافية في البنية التحتية الرقمية، ولكن هذا الرقم قد يقفز إلى 15٪ إذا ما تمّ تعزيز النفاذ الرقمي واعتماد التقنيات الحديثة.
ضرورة الاستباق لا التدارك
يلفت تقرير منظمة التجارة الدولية إلى أنّ التجارة العالمية قادرة على لعب دور أساسي في جعل التحول الذكائي أكثر شمولاً. فالاتفاقيات القائمة تحت مظلة منظمة التجارة العالمية مثل اتفاقية تكنولوجيا المعلومات التي ألغت الرسوم الجمركية على أكثر من ثلاثة تريليونات دولار من المبادلات التكنولوجية تهيّئ بيئة مشجعة لتطور سلاسل القيمة الخاصة بالذكاء الاصطناعي. كما تساهم قواعد الخدمات، واتفاقية الحواجز التقنية أمام التجارة، اتفاقية “تريبس” المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية، في دعم الابتكار ونشر التكنولوجيا.
تشير كل التوقعات العالمية بأن الذكاء الاصطناعي لا يحمل فقط وعوداً بالنمو، بل يطرح أيضاً تحديات اجتماعية عميقة. أبرزها يتعلق بسوق العمل، حيث سيعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل مهن كثيرة، محدثاً وظائف جديدة لكن أيضاً مزيحاً أخرى. لذلك يشدد التقرير على أن أي تحول ناجح يتطلب سياسات تعليمية وتكوينية واستثماراً في إعادة التأهيل والتغطية الاجتماعية، لتجنب إعادة إنتاج الأخطاء التي رافقت موجات العولمة السابقة، حين لم تُواكب المكاسب التجارية بسياسات داخلية داعمة للعمال والفئات الضعيفة.
في الواقع فإن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرّد أداة تقنية، بل أصبح قوة تعيد تشكيل سوق العمل بعمق. ففي قطاعات الصناعة والخدمات على حدّ سواء، بدأت مهام تقليدية تُستبدل بأنظمة ذكية قادرة على الأتمتة واتخاذ القرار، انطلاقا من الفحص الطبي بالتصوير الشعاعي حيث تساعد الخوارزميات في كشف الأورام بدقة تفوق البشر، إلى الخدمات اللوجستية حيث تدير حركة الأساطيل وسلاسل التوريد بكفاءة عالية.
قد يؤدي الذكاء الاصطناعي والأتمتة بحلول عام 2027 إلى إلغاء العديد من الوظائف التقليدية، لكنها في المقابل ستُنشئ ملايين من الوظائف الجديدة في مجالات تحليل البيانات مثل تطوير البرمجيات، والأمن السيبراني، والطاقة الخضراء، والتصميم الإبداعي. وهذا التحوّل لا يعني تراجعًا في فرص العمل بل تغيّرًا في طبيعتها مثل المهارات الرقمية، والتفكير النقدي، وإدارة البيانات والتي أصبحت هي رأس المال الحقيقي المطلوب في سوق العمل الجديد. وبذلك، فإن الذكاء الاصطناعي يحمل فرصًا لإعادة توزيع المهام وتحفيز الابتكار، لكنه يفرض في الآن ذاته ضرورة الاستثمار في التعليم، إعادة التأهيل والتدريب المستمر حتى لا يتحول إلى عامل إقصاء لفئات واسعة من
وإذا كان التاريخ قد شهد تحوّلات مشابهة مع الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر أو مع ثورة الإنترنت في أواخر القرن العشرين، فإن ما يميز الثورة الرقمية الحالية هو السرعة والحجم غير المسبوقين للتغيير. فبينما استغرقت المكننة الصناعية عقودًا لتنتشر، كما انتشر الإنترنت في غضون عقدين، فإن الذكاء الاصطناعي يفرض تحوّلات جذرية في غضون سنوات قليلة فقط، ليعيد تشكيل قطاعات كاملة مثل الصحة، التعليم، المال والنقل. هذا التسارع يجعل التكيف أصعب لكنه في المقابل يفتح المجال أمام فرص تنموية غير محدودة للدول والشركات والأفراد الذين يسارعون إلى الاستثمار في المهارات الرقمية والابتكار التكنولوجي.
مبادرات لتعزيز الشمولية
تسعى منظمة التجارة العالمية إلى لعب دور مباشر في تضييق الهوة بين الاقتصاديات، من خلال برامج المساعدة التقنية بالشراكة مع البنك الدولي لتطوير التجارة الرقمية في إفريقيا، وصندوق النساء المصدّرات في الاقتصاد الرقمي الذي يهدف إلى تمكين الشركات النسائية من استغلال فرص التجارة الرقمية. هذه المبادرات، رغم محدوديتها، تعكس وعياً متزايداً بضرورة إدماج الفئات المهمشة في الثورة التكنولوجية. وأشار التقرير إلى أن الناتج المحلي الإجمالي العالمي قد يقفز بنسبة تتراوح بين 12 و13% في أفضل السيناريوهات، شرط أن تستثمر الحكومات في البنية التحتية الرقمية وتعليم المهارات الجديدة للعمال، وتجنب النزعات الحمائية التي تعرقل انفتاح الأسواق.
لقد حذرت المنظمة من أن تقاعس الدول عن الاستثمار في التعليم والحماية الاجتماعية قد يؤدي إلى تكرار "أخطاء العولمة"، حيث وُجهت انتقادات واسعة لعدم مراعاة الآثار الاجتماعية والاقتصادية على فئات واسعة من المجتمعات.ولفت التقرير إلى أن القيود التجارية المرتبطة بالسلع والخدمات التكنولوجية ارتفعت بشكل ملحوظ خلال العقد الماضي؛ إذ قفز عددها من 130 قيدًا عام 2012 إلى نحو 500 قيد في عام 2024، معظمها فرضته الدول الغنية و الاقتصاديات الصاعدة.
السؤال الجوهري
يبقى السؤال الجوهري الذي يطرحه تقرير 2025 منظمة التجارة العالمية هل سيكون الذكاء الاصطناعي قوة دافعة نحو ازدهار مشترك، أم عاملاً جديداً لتوسيع الفوارق بين الدول والمجتمعات؟ الجواب لا يرتبط بالتكنولوجيا في حد ذاتها، بل بالخيارات السياسية والإستراتيجية التي ستتخذ اليوم، سواء على الصعيد الوطني أو عبر التعاون الدولي.
لئن أبدت منظمة التجارة العالمية استعدادها لتكون في صلب هذا التحول، واضعة الذكاء الاصطناعي والتجارة في قلب نقاشاتها المستقبلية، فإن النجاح في جعل “التجارة والذكاء الاصطناعي يعملان معاً لصالح الجميع” سيظل رهين إرادة جماعية حقيقية وفعلية ، تتجاوز المصالح الضيقة نحو بناء نظام اقتصادي عالمي أكثر عدلاً وشمولاً.